منذ الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة اختلط الديني بالسياسي، لأسباب موضوعية تتعلق بظروف المجتمع المديني، والسياق العام للفكر السياسي البسيط في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وطبيعة الصراعات بين المؤمنين بالدعوة النبوية وغير المؤمنين. والتي بدأت لأسباب اقتصادية في المقام الأول، في السرايا التي سيرها النبي محمد لمهاجمة قوافل قريش التجارية، للحصول على ثروات تعوض ما تخلى عنه المهاجرون من أموال وثروات لقريش مقابل الهجرة إلى المدينة.
وأياً يكن ما حدث في عهد النبي محمد، عليه السلام، فقد توفاه الله ولم يحدد نظاماً سياسياً لمجتمع المسلمين الذي غطى كامل مساحة شبه الجزيرة العربية في عهده، وفق رابط الإيمان ودفع الزكاة، لا رابط نظام سياسي لدولة محددة المعالم. ولهذا انفرط عقد هذا المجتمع بوفاة النبي، ليأتي الخليفة الأول أبو بكر الصديق ليؤسس الدولة العربية. وفي حادث السقيفة المعروف تاريخياً بسجال المهاجرين والأنصار حول النظام السياسي، لم يحدث أنّ استشهد أي طرف بوجود نظام سياسي إسلامي.
لكن بعد وفاة الخليفة الثالث عثمان، وأحداث الحرب الأهلية بين الخليفة علي والوالي معاوية بن أبي سفيان، ثم تأسيس الدولة الأموية، ستظهر النظريات الدينية عن السلطة، والتي ستتوسع في عهد الدولة العباسية، ليتم تحويل الواقع التاريخي المرن إلى نظرية سياسية إسلامية، أخذت شكلها كما في كتابات أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، (ت 450هـ)، خاصة في كتابه "الأحكام السلطانية".
بدايةً لم تخلق قضية نشوء الدول في تاريخ المسلمين الإشكالات التي ظهرت في الربع الثاني من القرن العشرين، كوّن التدين الشعبي لم ينخرط في قضايا السلطة التي كانت حكراً على قلة من النخب العربية القبلية ثم النخب العسكرية في العهد الثاني للدولة العباسية.
وعلى مستوى المنظّرين الدينيين، اقتصر السجال الديني على مواجهة الأغلبية السنّية الحاكمة، للمعارضة الشيعية التي صاغت نظرية الإمامة المحصورة في آل البيت من نسل الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، مع اختلافات كبيرة حول سلسلة الأئمة بين الفرق الشيعية الإمامية من زيدية وإسماعيلية واثني عشرية.
وتعتبر أزمة التيارات الدينية مع الدولة القومية أزمة حداثية؛ إذ إنّ تلك التيارات تبلورت من خلال الاشتباك مع الحداثة التي دخلت إلى العالم العربي مع تأسيس الدولة الحديثة في عهد محمد علي باشا في مصر (1805-1848).
ومع إنهاء الدولة العثمانية عام 1924 على يد مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وتأسيس الجمهورية، نشأت أزمة غياب "الخلافة" لدى المفكرين الإسلاميين، وليس الجماهير المسلمة، التي لم يكن من ضمن اهتماماتها قضية الحكم، والتي تعتبر قضية حديثة نسبياً هي الأخرى لدى عموم الشعوب، نشأت بعد انتشار التعليم الحديث، والانتشار الجماهيري للصحف ووسائل التواصل لاحقاً، ونيل تلك الجماهير حقوقاً واسعة بدأت مع تملك الأراضي الزراعية في عهد خلفاء محمد علي باشا، ومع القوانين الحديثة بشكل عام، التي رافقت تغير نمط الإنتاج ولو نسبياً.
وسيظهر مع مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، إرهاصات التنظيرات الدينية حول استعادة الخلافة الإسلامية، وفكرة الدولة الإسلامية بشكل عام والتي ستصبح في مواجهة مع الدول القومية التي اتخذت شكلها في مصر منذ عام 1914 الذي شهد إلغاء تبعية مصر للدولة العثمانية، بعد فرض الحماية البريطانية عليها، وتعيين السلطان حسين كامل، كأول حاكم مستقل عن العثمانيين للدولة المصرية. ثم لاحقاً بدأت الدول القومية تظهر في المنطقة تباعاً، مع المملكة العربية السعودية عام 1924، والمملكة الأردنية الهاشمية، ومملكة العراق، ثم لبنان وسوريا وبقية الدول العربية المستقلة على أساس جغرافي لا ديني، بعد رحيل الاستعمار الأوروبي.
وتجدر التفرقة بين الدولة القومية الحديثة والعلمانية؛ فمع تأسيس الدول القومية لم يُنتهج النظام العلماني في إدارة علاقة الدولة بالدين؛ وظلت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، والموروثة منذ العثمانيين ودولة محمد علي باشا معمولاً بها، بدرجات متفاوتة، خاصة في مسائل الأحوال الشخصية.
وتزامن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 مع إلغاء الخلافة العثمانية، والتي خلقت حالة من السجال الفكري الواسع بين المفكرين في مصر والبلاد العربية. وتبنى حسن البنا استعادة الدولة الإسلامية كهدف أساسي لجماعته التي أسسها، ويعتبر أول من نظرّ لقضية استعادة الدولة الإسلامية، ومع سيد قطب لاحقاً سيظهر التنظير المفصل والأعمق للصدام مع الدولة القومية.
وضع البنا في مصنفه "رسالة التعاليم" الأسس والأهداف التي من أجلها أسس جماعة الإخوان المسلمين، وعلى رأسها "إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة."
وفي الرسائل سيبث العديد من التعاليم والتوجيهات التي يُعبر عنها المصطلح الحديث الاستخدام "دولة داخل الدولة"، ومن ذلك "أن تتخلى عن علاقتك بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك وخاصة إذا أُمرت بذلك". ومن التوجيهات أيضاً التي أسست لرفض مؤسسات الدولة الحديثة، لسبب لم يصرح به البنا، وسيصرح به منظرون لاحقون من الإخوان والتيارات الجهادية التي خرجت من رحمها، وهو "تكفير الدولة الحديثة" وتحريم التعامل مع مؤسساتها إلا في أضيق الحدود، ما يلي "أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناقض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة".
وفي توجيه آخر لأفراد الجماعة، أسس البنا للتمييز بين المواطنين في مصر على أساس ديني، وهو الأمر الذي كان يميز الدول كافة قبل نشوء الدول القومية الحديثة، ودعا البنا إلى "أن تخدم الثروة الإسلامية العامة بتشجيع المصنوعات والمنشآت الاقتصادية الإسلامية، وأن تحرص القرش فلا يقع في يد غير إسلامية، مهما كانت الأحوال، ولا تلبس ولا تأكل إلا من صنع وطنك الإسلامي".
ولاحقاً على مدار تجارب التيارات الدينية بدءاً من الإخوان المسلمين والجماعات الجهادية والسلفيين، ستظهر ما يمكن تسميتها حالة الانفصام عن مؤسسات الدولة الحديثة، والتعامل معها دون إيمان بدورها كأسس تقوم عليها الدولة. وعلى المستوى الشعبي بين التيارات الدينية ظهرت قضايا مثل؛ الموقف من التوظيف والعمل في مؤسسات الدولة، والموقف من تلقي المرتبات من الأموال العامة، وشرعنة استهداف تلك المؤسسات مع التيارات التكفيرية الجهادية.
وفي هذا السياق، ناقش المفكر عبد الجواد ياسين تلك القضايا في سلسلة مقالات بعنوان "الازدواجية الثقافية في الواقع العربي المعاصر". وكتب "بعد تبلور التيار الأصولي وظهور جماعة الإخوان المسلمين ستُقرأ عملية الاقتباس من مصدر وضعي على حساب الفقه بوصفها خرقاً لحاكمية الله الشاملة، وسيشار إلى القانون بوصفه نقيضاً موضوعياً للشريعة."
وأشار ياسين إلى أنّ المرشد الثاني للجماعة، المستشار حسن الهضيبي، عبّر عن موقف البنا خلال مناقشة أمام مجلس الشيوخ المصري حول قانون في العهد الملكي، بقوله "هذا القانون لا يستحق النقاش من حيث المبدأ؛ لأنه لم يصدر مباشرة عن القرآن والسنة."ومع سيد قطب تعمقت تلك الأفكار، وظهر مبدأ "الحاكمية"، وستتابع التيارات الإسلامية جماعة الإخوان في موقفها المناهض للدولة الحديثة.
يرى الأكاديمي والباحث المصري محمد ماهر بسيوني، بأنّ التيارات الدينية تناصب فكرة الدولة الحديثة العداء؛ لأنها تقوم على المواطنة أي المساواة بين أفراد الدولة في الحقوق والواجبات، بينما ترى تلك التيارات خلاف ذلك، مثل قوامة الرجل على المرأة، وعدم قبول شهادة غير المسلم في حق المسلم.
وتابع بأنّ التيارات الدينية تعتنق أفكار تناقض الأسس التي قامت عليها الدولة الحديثة، مثل رفض رئاسة المرأة أو غير المسلم للدولة، وغير ذلك من القواعد الفقهية التي تبلورت قبل نشوء الدولة بمفهومها الحديث. وأوضح أنّ أفكار تلك التيارات ترفض مواكبة التغيرات الهائلة التي شهدتها المجتمعات الإنسانية، من فكرة الحاكم المطلق إلى حكم الشعب، ومن الشورى غير الملزمة إلى الديمقراطية، ومن حكم الفرد أو العائلة الحاكمة إلى حكم المجالس النيابية المنتخبة، ومن مفهوم الرعايا إلى مفهوم المواطن.
0 Comments: