الخميس، 17 يوليو 2025

دور الذكاء الاصطناعي في الدعم النفسي بين الخصوصية والقلق

 

الذكاء الاصطناعي

دور الذكاء الاصطناعي في الدعم النفسي بين الخصوصية والقلق


في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة استخدام الناس لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، برزت أدوات الدعم النفسي الرقمية باعتبارها خيارًا جديدًا يستقطب فئات واسعة من المجتمع، خصوصًا في البيئات المحافظة التي لا تزال تنظر إلى العلاج النفسي على أنه "وصمة" أكثر منه حاجة إنسانية.


إذ توفر هذه الأدوات القائمة على خوارزميات متقدمة مساحة للتفريغ النفسي، وتتيح الاستماع النشط، وتقديم المشورة بأسلوب يحاكي الجلسات الإرشادية التقليدية، دون الحاجة لوجود مختص بشري فعلي، ما يجعلها خيارًا مفضلاً لدى من يواجهون صعوبات في الوصول إلى الدعم النفسي المباشر.


وفي هذا الإطار، استطلعت "عُمان" آراء عدد من الاختصاصيات في الشأن الاجتماعي والنفسي، بهدف فهم أبعاد هذه الظاهرة المتنامية، والكشف عن الدوافع النفسية والاجتماعية لتي تُغذي التوجّه المتزايد نحو أدوات الذكاء الاصطناعي لأغراض نفسية، إلى جانب تسليط الضوء على التأثيرات المحتملة لهذا الاتجاه على الصحة النفسية العامة.


أوضحت آية بنت حمد السالمية، أخصائية اجتماعية، وعضو جمعية الاجتماعيين العُمانية، أن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي لأغراض نفسية قد يكون مفيدًا في بعض الحالات، لكنه يتطلب وعيًا ومسؤولية من قبل المستخدم العادي، مشددة على أن هذه التطبيقات لا تُغني عن المعالج النفسي البشري بأي حال من الأحوال.


وأكدت السالمية أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُشكّل وسيلة للدعم الأولي أو للتهدئة الذاتية، وربما يساهم في مراقبة المشاعر، إلا أنه لا يمتلك القدرة على معالجة القضايا النفسية العميقة مثل الصدمات أو الاضطرابات العقلية المعقدة، وذلك لافتقاده إلى المشاعر الإنسانية الحقيقية والتعاطف الفعلي، واعتماده الكامل على البيانات والمعطيات التي تُغذّى له مسبقًا.


وأشارت إلى أهمية أن يتحقّق المستخدم من مدى التزام التطبيق بمعايير حماية الخصوصية وأمن المعلومات، محذّرة من مشاركة بيانات شخصية أو حساسة مع هذه البرامج إلا إذا كانت هناك ضمانات موثوقة لحماية تلك المعلومات، مؤكدة أن بعض التطبيقات قد لا تلتزم بهذه المعايير بالشكل المطلوب.


كما شدّدت على ضرورة عدم الاعتماد الكلي على هذه البرامج في اتخاذ قرارات مصيرية أو تشخيص حالات نفسية، لافتة إلى أن العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي تستند في برمجتها إلى خلفيات ثقافية غربية، ولا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية للمستخدم العربي، مما قد يؤدي إلى تقديم توصيات غير مناسبة أو حتى مضللة في بعض الحالات.


وأضافت السالمية أن التعامل مع هذه الأدوات يجب أن يتم بوعي ونضج، بحيث يكون المستخدم متزنًا في تلقي التقييمات أو النصائح، دون أن يسلّم بصحتها تسليمًا مطلقًا.


وفي السياق ذاته، أوضحت أن الثقافة المجتمعية والعادات المحلية لها تأثير كبير في دفع بعض الأفراد إلى استخدام الذكاء الاصطناعي بصفته بديلًا عن الدعم النفسي المباشر، مؤكدة أن الوصمة المرتبطة بالعلاج النفسي لا تزال قوية في كثير من المجتمعات العربية، حيث يُنظر إلى من يزور معالجًا نفسيًا وكأنه يعاني من "مرض" أو "خلل"، مما يدفع الأفراد، خصوصًا في البيئات المحافظة، إلى البحث عن وسائل دعم سرّية وآمنة اجتماعيًا.


كما نبهت إلى أن بعض الأفراد قد يلجأون لهذه التطبيقات هروبًا من الإحراج أو الخوف من الأحكام الاجتماعية، إلا أن هذه الحلول الرقمية غالبًا ما تفتقر للفهم العميق للسياق المحلي والديني والأسري، مما يقلل من فعاليتها أو قد يؤدي إلى نتائج عكسية.


وأكدت السالمية أن الذكاء الاصطناعي قد يكون وسيلة تمهيدية تساعد الشخص على اتخاذ قرار الذهاب لاحقًا إلى معالج نفسي بشري، خصوصًا في المجتمعات التي تخشى من الإفصاح العلني عن المشاعر، حيث يبدأ البعض باستخدام هذه التطبيقات للتعبير عن مشاعره دون كشف هويته، الأمر الذي يُعد خطوة أولى مهمة، وقد يحصل من خلالها على معلومات أولية حول أعراض معينة كالاكتئاب أو القلق، مما يشجّعه لاحقًا على طلب دعم احترافي.


ودعت إلى ضرورة الرجوع إلى مختصين نفسيين معتمدين في حال ظهور أعراض مزمنة أو حادة مثل القلق المستمر أو الاكتئاب أو التفكير الانتحاري، مؤكدة أن الذكاء الاصطناعي، على الرغم من قدراته، لا يمكنه أن يحل محل التفاعل الإنساني العميق، وأن الحفاظ على الصحة النفسية هو حق إنساني أصيل، لا يُعد ضعفًا ولا عيبًا.


مساحة آمنة


أوضحت فهيمة السعيدية، باحثة دكتوراة في علم النفس التربوي بجامعة السلطان قابوس وعضوة في جمعية الاجتماعيين العُمانية، أن ارتياح بعض الأفراد للبوح لبرامج الذكاء الاصطناعي أكثر من المعالج البشري يعود لعدة أسباب تتعلّق بسهولة الوصول، والخصوصية، والشعور بالأمان النفسي والاجتماعي أثناء الإفصاح عن المشاعر.


وأشارت إلى أن تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال النفسي أتاح إمكانية تقديم الدعم دون الحاجة لوجود فعلي لمعالج بشري، وذلك عبر خوارزميات مبرمجة لمحاكاة أساليب الجلسات الإرشادية الواقعية، مثل الاستماع الفعّال، والتعاطف، وإعادة الصياغة، وتقديم المشورة النفسية.


وأضافت أن من أبرز الأسباب التي تجعل بعض الأفراد يفضلون استخدام هذه البرامج، هو سهولة وسرعة الوصول إليها من أي مكان وفي أي وقت، دون الحاجة إلى مواعيد أو دفع تكاليف مالية، مما يجعلها أكثر جاذبية مقارنة بالخدمات التقليدية.


وأكدت السعيدية أن هذه التطبيقات توفر مستوى عاليًا من الخصوصية، حيث لا تتطلب من المستخدم الإفصاح عن هويته أو التفاعل المباشر، مما يوفّر بيئة مريحة عند التحدث عن مواضيع شديدة الحساسية مثل القلق، الصدمات، المخاوف، أو التجارب المؤلمة.


وأوضحت أن الذكاء الاصطناعي يقدم ما يعرف بـ"المساحة النفسية الآمنة"، وهي بيئة خالية من الحكم أو النقد، تسمح للفرد بالتعبير عن ذاته بحرية دون الخوف من تقييم الآخرين أو وصمهم، وهي بيئة قد لا تتوفر دائمًا في الجلسات التقليدية مع المعالجين البشريين.


وأضافت أن بعض المسترشدين قد يواجهون تجارب سلبية مع معالجين بشريين، كالشعور بعدم التفهم، أو التسرع في إصدار الأحكام، أو التركيز على جوانب سطحية، في حين أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على لغة حيادية، وأسلوب داعم دون تحيّز.


وفي ردّها على مدى تأثير الذكاء الاصطناعي في كسر حاجز الخجل والخوف من الأحكام المجتمعية، أكدت السعيدية أن هذه التطبيقات تُسهم في تخفيف الوصمة المرتبطة بطلب المساعدة النفسية، خاصة في المجتمعات التي لا تزال تتحفّظ على هذا النوع من الدعم.


وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي يتيح مساحة للتعبير دون الكشف عن الهوية، مما يشجع على التدرّب على الإفصاح، خاصة لمن نشأوا في بيئات تقمع التعبير عن الذات.


وفي ذات السياق، شددت السعيدية على أن شعور الشخص بأنه "غير مراقب" يعزز من جودة الإفصاح النفسي، ويمنحه حرية أكبر في التعبير عن مشكلاته دون خوف من تقييم ديني أو أخلاقي، مما ينعكس إيجابًا على راحته النفسية.


واختتمت السعيدية حديثها بالتأكيد على أن الذكاء الاصطناعي، رغم محدوديته، يمكن أن يكون نقطة انطلاق مهمة نحو تحقيق التوازن النفسي، داعية إلى توظيف هذه الأدوات التقنية بوعي ومسؤولية، دون أن تحل محل العلاج النفسي البشري المتخصص.


عزلة رقمية


أوضحت مزنة بنت محسن الرحبية، أخصائية اجتماعية بإحدى المدارس الحكومية وعضوة في جمعية الاجتماعيين العُمانية، أن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالمرض النفسي لا تزال متجذّرة في مجتمعاتنا، حتى في البيئات التي تبدو أكثر انفتاحًا، مما يدفع فئات مثل النساء والمراهقين إلى اللجوء لأدوات الدعم النفسي الرقمية بدلًا من زيارة الطبيب النفسي.


وأشارت إلى أن طلب المساعدة النفسية غالبًا لا يُنظر إليه على أنه مبادرة نحو التعافي، بل يُفهم خطأً على أنه دليل على ضعف الشخصية أو وجود خلل نفسي، مما يضع حاجزًا بين الأفراد وبين الخدمات النفسية التقليدية.


وأضافت أن المراهقين، بحكم طبيعتهم الساعية إلى الاستقلال، يخشون أن يُوصموا بصفات سلبية مثل "مضطرب نفسيًا"، ولذلك يفضلون استخدام التطبيقات الرقمية التي تمنحهم مرونة في التعبير، وتحافظ على هويتهم مخفية.


وأكدت أن النساء، في بعض المجتمعات التي تُقيّم المرأة بحسب قدرتها على التحمل والصبر، قد يخشين أن يُفهم طلبهن للدعم على أنه ضعف، لذا يلجأن إلى أدوات رقمية توفر لهن تفريغًا نفسيًا بعيدًا عن الرقابة الاجتماعية أو العائلية.


وفي ردها على ما إذا كان هذا التوجه صحيًا على المدى البعيد، أكدت الرحبية أن هذه التطبيقات، رغم فاعليتها الفورية، قد تتحول إلى بديل دائم عن التواصل الإنساني، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ"العزلة النفسية الرقمية"، حيث يكتفي الفرد بمحادثات متكررة مع خوارزميات، دون خوض تجارب إنسانية حقيقية.


وبيّنت أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، يحتاج إلى تجارب واقعية لتنمية مهاراته في التفاعل والتواصل، مشيرة إلى أن الإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي قد يُضعف هذه المهارات، ويدفع البعض نحو العزلة والانسحاب.


وختمت الرحبية بالتأكيد على أهمية استخدام أدوات الدعم الرقمي بوعي واعتدال، واعتبارها وسائل مساعدة لا بدائل دائمة، حفاظًا على الصحة النفسية وتحقيق التوازن الحقيقي بين الراحة الرقمية والتفاعل الإنساني الواقعي.


0 Comments: