توازن وحكمة وتمسُّك بالجذور والمبادئ
يقول المؤرخ توماس كارليل: «إن التاريخ هو صناعة الأبطال»، ورغم ما يحوم حول هذه المقولة من جدل بين فلاسفة التاريخ إلا أن هذه المقولة ما زالت تُلقي بظلالها على فهمنا للتاريخ ومراجعتنا له؛ فالأبطال وحدهم الذين يخلدهم التاريخ؛ لأنهم هم من صنعه.. سواء كانت صناعتهم له بالحكمة والفكر أو بالقوة والأثر.
وعندما يستعيد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- في خطابه أمس أسلاف عُمان وسلاطينها إنما كان يستعيد سيرة الأبطال بالمعنى الأثير للجماهير عن معنى البطل وتوصيفه، فهؤلاء الأسلاف من السلاطين هم من أرسى أسس الدولة وكيانها الذي نراه ونقرأه وهم من صار رمزًا للقوة والوحدة.
ولم يكن بناء عُمان التي هي عليها اليوم بصورتها البهيّة المنسوجة بخيوط الحكمة والسلام بالأمر الهيّن، بل كان تحدّيًا واجه صراعات جمة هي في الحقيقة شكل هذه الحياة وطبيعتها، وكان توحيدًا لكل الانقسامات حتى وصلت عمان إلى وحدتها الوطنية الراسخة اليوم والتي أصبحت جزءًا أساسيًا وركنًا من أركان إيمان العماني.
وإذا كان جلالة السلطان المعظم قد استشهد بالسيد أحمد بن سعيد البوسعيدي مؤسس الدولة البوسعيدية فإن في ذلك رمزية مهمة لفكرة توحيد عمان على كل ترابها في لحظة كانت تعيش فيها عُمان صراعات كبرى هددت استقلالها ووحدتها في منتصف القرن الثامن عشر الميلاد، قبل أن يظهر السيد أحمد بن سعيد بوصفه «البطل» القادر على مواجهة التحديات واستعادة وحدة عُمان وتحريرها من العدوان الخارجي وحفظها من الانقسامات الداخلية.
ومن يعد إلى التاريخ يفهم كيف التفّ العمانيون جميعًا دون استثناء حول هذا البطل المؤسس الذي وحد الصفوف وحقق الاستقرار، وحفظ كيان الدولة من المساس بها أو الانهيار، وأرسى قيم العدل والحكمة والاتزان.
وشهدت عُمان في عهد السيد أحمد بن سعيد ازدهارًا اقتصاديًا بفضل تعزيز التجارة البحرية وتطوير الموانئ، لاسيما مسقط، واهتم ببناء أسطول بحري قوي في وقت كانت القوة البحرية هي السلطة والسيادة في العالم الأمر الذي أسهم في حماية التجارة العمانية والإقليمية وتوسيعها. كما شهدت فترة حكم السيد أحمد بن سعيد اهتمامًا بالتعليم والثقافة، حيث أُنشئت المدارس وازدهرت العلوم الدينية والأدبية وبرز الشعراء والأدباء.
ومن تلك اللحظة، بدأت رحلة الأسرة البوسعيدية التي تحكم عُمان منذ 280 سنة فيما يمكن اعتبارها من بين أطول الأسر الحاكمة في العالم اليوم، وحافظ سلاطين الدولة البوسعيدية على إرث عُمان ومبادئها وقيمها وقدموا في سبيل ذلك الإنجازات والتضحيات، وتوسعت الدولة في عهدهم إلى أن شملت في وقت من الأوقات أجزاء واسعة جدا من جزيرة العرب ومن شرق إفريقيا، وبسطت نفوذها في المحيط الهندي ورفرفت الراية العمانية على مساحات شاسعة من الأرض.
وكانت الدولة البوسعيدية التي جعل جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- يوم تأسيسها يومًا وطنيًا عمانيًا تكريمًا لسلاطينها العظام، تحمل فكرًا عميقًا لبناء عُمان وفهمًا أعمق لشكل المنطقة ومراكز القوة فيها، ولذلك نقلت العاصمة في عهد السلطان حمد بن سعيد إلى مسقط فيما يمكن أن نعتبره اليوم فكرًا اقتصاديًا تقدميًا في تلك المرحلة من مراحل التاريخ القديم.
وفي عهد السيد سعيد بن سلطان، بلغت عمان ذروة المجد البحري، وذروة امتدادها الجغرافي حيث أصبحت ممتدة جغرافيا إلى زنجبار وعموم الساحل الشرقي لإفريقيا بل وإلى أعماق القارة السمراء، وأصبحت السفن العمانية تبحر في المحيط متحكمة بالتجارة وناشرة للأمن والاستقرار.
ورغم التحديات التي مرت على المنطقة وعُمان بشكل خاص خلال عقود الدولة البوسعيدية إلا أن من يعد إلى التاريخ يدرك حجم الإضافات الكبرى التي أضافها سلاطين البوسعيد لعُمان بشكل خاص وللمنطقة بشكل عام.
وفي عام 1970، بزغ على عُمان فجر جديد بتولي السلطان الراحل قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في عمان وهو السلطان الذي نقل عُمان من حقبة تاريخية إلى حقبة أخرى مليئة بالضوء والتحديث والمجد وقاد نهضة شاملة ربوع عمان وأسس البُنى الراسخة، وآفاق التطور، وشيّد مدنًا حديثة، وأرسى قواعد دولة عظيمة، وحقق إنجازات دبلوماسية أضحت عُمان فيها صوتا للحكمة والسلام. وعلى الصعيد المحلي، شهدت عُمان تطورًا كبيرًا في البنية الأساسية والتعليم والصحة والاقتصاد، وحقق احترامًا دوليًا ومكانةً مرموقةً على جميع الأصعدة.
واليوم في عصر النهضة المتجددة يسير على ذات النهج حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه-، حاملا راية الأسلاف، يخط خطوطًا واضحةً نحو مستقبل اقتصادي متنوع، وطن ينصف الأجيال القادمة بإنجازات تبنى على صلابة الماضي، ويحتضن العالم بسياسة حكيمة، قوامها السلام والتعاون.
ومع السياسة الحكيمة التي يتبعها جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله-، والمتمثلة في التنويع الاقتصادي، وتعزيز الكفاءة الحكومية، وتطوير الموارد البشرية، لضمان استدامة النهضة العُمانية ومواكبة التحديات المستقبلية، بانت ثمار ذلك بعد مضي 5 أعوام من تولي جلالته مقاليد الحكم.
وما زالت عُمان اليوم تضع خطوط مستقبلها المشرق ولكن تلك الخطوط موصولة بجذورها فالقيم والأخلاق التي يتمسك بها العمانيون هي امتداد لتاريخهم الذي بني بالتضحيات وبني بالتوازن والحكمة.
واستطاعت أسرة البوسعيد أن تحقق التوازن لهذا البلد، وذلك من خلال التمسك بالتراث والتاريخ العريق والهوية الوطنية، وهذا المنحى هو الذي درجت عليه عُمان عبر تاريخها الطويل وهو الذي يعطيها اليوم ميزة مهمة في ظل الصراع العالمي حول بقاء الهُويات الوطنية واندثارها.. لكن عُمان لا تستطيع أن تنبتّ عن تاريخها ولذلك نراها تسير نحو مستقبلها بثبات وإرادة.