الجندية عند الإخوان المسلمين: مصائر الطاعة العمياء
من يقرأ كتاب "رسالة التعاليم" لحسن البنا، يشعر كأنّ الرجل يخاطب جنوداً، ويؤهلهم لأدوار عسكرية، بشكل يناقض تماماً الصورة التي ترسمها جماعة الإخوان عن نفسها كجماعة دينية دعوية؛ إذ إنّ الدعوة الدينية لا تتطلب الإعداد البدني والتدريب الشبيه بالعسكري.
قبل تتبع فكرة الجندية أو تدريب أعضاء الإخوان كجنود، سواء فيما يتعلق بمبادئ الجندية من السمع والطاعة والولاء والتراتبية الهرمية، أو الإعداد البدني المؤهل لاستخدام السلاح وقت الحاجة، تجدر العودة إلى مرحلة ظهور هذه الفكرة عند حسن البنا.
في مقدمة كتاب رسالة التعاليم كتب البنا "هذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجه هذه الكلمات، وهي ليست دروساً تُحفظ، ولكنها تعليمات تُنفذ، فإلى العمل أيها الإخوان الصادقون."
ثم كتب موضحاً "أما غير هؤلاء فلهم دروس ومحاضرات، وكتب ومقالات، ومظاهر وإداريات، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، وكلا وعد الله الحسنى".
يقول الباحث في الفكر الإسلامي، هاني عمارة، إنّ رسالة التعاليم كانت موجهة للنظام الخاص فقط، وهم من قصدهم البنا بقوله "الإخوان المجاهدون من الإخوان المسلمين"، لأنّه قسم الإخوان إلى؛ الخصوص، وهم من وجه لهم رسالة التعاليم وطبق عليهم مفهوم الجندية، والعموم ممن خصص لهم الدروس والمحاضرات والأمور التنظيمية العامة وغير ذلك.
وأضاف بأنّه بعد مقتل البنا حَوّل الإخوان رسالة التعاليم من الخاصة إلى العموم، وأصبح كل منتسب للجماعة يتعامل معها على أنّها الكتاب المقدس للإخوان.
يستشهد عمارة من واقع تجاربه الشخصية مع عدد من قدامي أعضاء جماعة الإخوان بأنّ هؤلاء أُطلق عليهم مسمى "الإخوان الكبار" وهم من عاصروا حسن البنا، والتحقوا بالإخوان لكن لم يُكملوا في التنظيم، ومع ذلك ظل لهم وضعهم بين الجماعة. وتابع بأنّ هؤلاء كانوا يتحدثون عن الإخوان كأنها جماعة خيرية، ويفخرون بدورهم الخيري وقت انتسابهم للجماعة، لكنهم لم يكونوا على علم بكتاب رسالة التعاليم، ولم يقرأوا لسيد قطب أو تنظيرات الإخوان.
حين قُتل البنا عام 1949 كان عمر جماعة الإخوان 21 عاماً، وهو وقت كاف لإعداد كوادر شبابية، تولت لاحقاً قيادة الجماعة، وكان لها دور في تعميم طابع التنظيم الخاص على عموم الجماعة، خصوصاً بعد مقتل البنا وإعدام سيد قطب.
جعل البنا من الجندية إحدى صفات المسلم، كتب "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".
يعلق الباحث هاني عمارة بأنّ مفهوم الجندية من أخطر الأفكار عند الاخوان؛ لأنّهم يربون الأفراد على الاستعداد للقتال والتضحية والطاعة. ولفت إلى أنّ البنا جعل فكرة الجندية ركناً أساسياً في تكوين المسلم، بالمخالفة للسائد في الفقه الإسلامي، الذي ينظر لمسألة الجيوش كما تفعل الدولة الحديثة اليوم.
كتب البنا موجهاً حديثه للتنظيم الخاص "أركان بيعتنا عشرة فأحفظوها؛ الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوّة والثقة".
ويظهر أنّ البنا كتب "رسالة التعاليم" بعد تلقي البيعة الأولى من المجموعة الخاصة التي وصفها بالمجاهدين، ولهذا كتب "وأنت بانضمامك إلى هذه الكتيبة، وتقبلك لهذه الرسالة، وتعهدك بالبيعة، تكون في الدور الثاني، وبالقرب من الدور الثالث".
في مواطن عدة من "رسالة التعاليم" جاءت لفظة الجندية والكتيبة، وتوجيهات عديدة تتعلق بالطاعة وتنفيذ الأوامر، ومن ذلك "أريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئناناً عميقاً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة". وفي موضع آخر "على قدر الثقة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات".
أما تحت عنوان "واجبات الأخ العامل" فذكر البنا "أن تعرف أعضاء كتيبتك فرداً فرداً معرفةً تامة، وتُعرّفهم نفسك معرفة تامة كذلك"، وكتب أيضاً "أنّ تعتبر نفسك دائماً جندياً في الثكنة تنتظر الأوامر".
وبعد تفصيل أركان البيعة، كتب البنا "هذا مجمل لدعوتك، وبيان موجز لفكرتك، وتستطيع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا." وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى "البساطة والتلاوة والصلاة والجندية والخلق".
جدير بالذكر أنّ هذا الشعار انتقل من التنظيم الخاص إلى شعار عام لكل فرد من جماعة الإخوان المسلمين، وذلك مع سقوط الحد الفاصل بين التنظيم الخاص والجماعة. ولهذا فكما أثبت الواقع أنّ النزوع نحو العنف بنية أساسية في تكوين جماعة الإخوان المسلمين.
في مذكرات حسن البنا بعنوان "مذكرات الدعوة والداعية"، كتب بعد انضمام عدد من طلاب جامعات للإخوان "نهنئ هيئة الإخوان بانضمام هذه الكوكبة المؤيدة إلى كتيبة رجالها العاملين". وكدلالة على هيمنة فكرة التكوين العسكري على فكر البنا، كان من بين مقررات المؤتمر الثالث للجماعة، تحت عنوان "منهاج الإخوان المسلمين" ما يلي: "كل أخ لا يلتزم بهذه المبادئ لنائب الدائرة أن يتخذ معه العقوبة التي تتناسب مع مخالفته، وتعيده إلى التزام حدود المنهاج، وعلى حضرات النواب أن يهتموا بذلك فإنّ الغاية هي تربية الإخوان قبل كل شيء". أما قبول ذلك التأديب فكتب البنا عنه بأنّ من واجبات الأخ العامل "قبول مناصفات الإخوان التأديبية".
أما في نهاية المؤتمر العام الثالث، فجاء في الكتاب "وكان مسك الختام أن بايع حضرات الإخوان فضيلة المرشد العام على الثقة التامة والسمع والطاعة في المنشط والمكره"، وهي نفس البيعة التي تتبعها الجماعات المصنفة إرهابياً مثل داعش والقاعدة.
وجاء في الكتاب تفاصيل عديدة حول التدريب البدني، منها تحت عنوان "مظاهر النشاط الأسبوعي"، ما يلي؛ ليلة الكتيبة، يوم المعسكر. ويشمل يوم المعسكر التالي: "الجندية، التدريب، الاستعداد للجهاد المقدس، ذلك هو ما يعني به الإخوان المسلمون كل العناية، فيه يتكون الجيش الإسلامي وبه يستطيع أن يحق الأمل ويرفع اللواء عالياً. نرجو أن يكون لهذه الناحية أكبر قسط من اهتمام الإخوان فيعطون لأنفسهم كل أسبوع عرضاً عسكرياً يتدربون فيه".
تُذكر تلك الفقرة بالعرض العسكري لطلاب الإخوان المسلمين في جامعة الأزهر في مصر عام 2006، ما يدل على تطبيق الجماعة لتلك التعاليم بشكل منتظم، حتى تصنيفها جماعة إرهابية في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013.
أما في قسم الرحلات الصيفية، فجاء "الغرض من هذه الرحلات التدريب العسكري والتعارف ونشر الدعوة في ضواحي القاهرة. ويشترط أن يكون لدى الأخ لباس الجوالة أو التدريب العسكري." تلك المعسكرات أطلق البنا على رئيسها مصطلح "حكمدار" وهو رتبة في إدارة الشرطة في مصر إبان العهد الملكي.
يقول الباحث في الفكر الديني، هاني عمارة، بأنّ فرق الكشافة كانت الستار لتدريبات الإخوان، وكذلك فعلت الجماعة الإسلامية في السبعينيات، حتى تدخلت الحكومة لضبط ذلك. وذكر عمارة بأنّ أهم من نّظر لمفهوم الجندية بعد حسن البنا، هو محمد السيد الوكيل (ت 2002) وله كتاب بعنوان "القيادة والجندية في الإسلام".
لئن كان حسن البنا أسس التنظيم الخاص الذي ارتكب أعمال عنف واغتيالات بحق قيادات في الدولة المصرية في العهد الملكي ودبر محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فإنّ الجماعة من بعده طبقت مبادئ الجندية بشكل عام على جميع المنتسبين للجماعة. لهذا يوجد خيط رفيع بين المنتسب وتحوله إلى العنف حين تصدر له الأوامر، كما حدث في مصر بعد ثورة يونيو 2013.
تلك المفاهيم وغيرها تثبت ادعاءات الإخوان المسلمين بأنّهم جماعة إصلاحية تهدف لخير المجتمع أو تؤمن بقيم الديمقراطية والحرية وتداول السلطة، فمثل تلك الطاعة العمياء لا تحمل أياً من قيم الحرية أو الديمقراطية أو السلم.