التجربة الإخوانية في الميزان: كيف تبني الأصولية وعياً زائفاً؟
كان حسن البنا، في الثامنة عشر من عمره، حين سقطت الخلافة. كان أصغر من رشيد رضا بجيلين، على الأقل، ويشاطره نقمته على الدولة الحديثة، لكنّه على عكس رضا، الذي شَهَر هتافه يائساً في وجه العالم بعودة الخلافة، سار بخطى وئيدة لإعادة الإسلام إلى العالم ضدّ دولة لا تضع الدين على جدول اهتماماتها، مفروضة على شعب يتألم منها دون أن يعبّر عن آلامه بلغة واضحة، أو هكذا تَصَوّر.
سيمتدح البنا الإمبراطورية الآفلة، ويعرج بحياءٍ بالغ على أخطائها، لكن أياً كان ما كانت عليه فإنّ جذر الهزيمة هو التقسيم الغربي لأمة الإسلام، وزراعة الجسم الغريب المسمَّى "القومية" في نسيجها، وبما أنّ عودتها مستحيلة؛ فإنّ الدولة الإسلامية المرجوَّة ستقوم مقامها في الإصلاح، بل ستكون هي محور الإصلاح ودليله.
لم تكن هناك، على الإطلاق، محاولة من قبل الشاب الناقم لخلق نبالة وراثية جديدة، أو إسناد شرف قيادة الإسلام إلى نبالة قائمة (أسرة محمد علي) فالبنا في مبتدأ الأمر ومنتهاه لم يكن سليلاً لعائلة مرموقة، ولا هو محامٍ لعائلات حاكمة مغدور بها؛ بل هو ابن الأنتلجينسيا (طبقة المتعلمين) المُحبطة والمشوشة، ودليلها على حصتها من الاغتراب.
بوسع أيّ متأمل في التحولات الاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين؛ أن يلاحظ المشاعر الصاخبة والمشوَّشة التي جرى استقطابها لصالح تقليدية محدثة، أو في إطار مذهب دين/ سياسي، يمزج العناصر التقليدية (الطائفة، المجتمع العضوي، سلطة الأب الزعيم، توظيف النصوص الدينية في العمليات السياسية)، في نسيج واحد مع عناصر تحديثية (رفض التقليد الديني، التمرد على المؤسسة الدينية، التنظيم على أسس لينينية، لغة سياسية حديثة متجاوزة للتراث) ضدّ عدوّ واقعي أو متخيَّل (لا فرق)، هو: التغريب، الإرساليات الدينية، الجاليات الأجنبية، العلمانية التي فتتت المجتمع المسلم، وإسناد كلّ مشكلات البلاد لوجود هذا العدو الذي هو باختصار مؤامرة غريبة على الإسلام.
السؤال الأكثر أهمية فيما يتعلق بأيّة ظاهرة أيديولوجية هو: كيف يمكن أن تخلق عقدة لمنظومة أفكارها بمجرد أن يقبل بها المتلقي سيقبل بكلّ ما في المنظومة من هراء وسذاجة ولاعقلانية واضحة وضوح الشمس؟
في تاريخ الأدلجة؛ هنالك مثال فجّ على تزييف وعي المجتمع، وهو المثال الألماني (الذي درسه سلافوي جيجك بحنكة وبراعة)؛ فحتى يقبل الألماني بالمنظومة الفكرية النازية غير العقلانية، عليه أن يقبل بفكرة "المؤامرة اليهودية" عليه وعلى بلده، وعندما يسلّم بذلك؛ لعجزه عن امتلاك تفسير واضح ومنطقي لسبب الانحلال الأخلاقي في المجتمع الألماني (وهو الرأسمالية التي فكّكت البنية التقليدية للمجتمع من دون أن توفر بديلاً آخر، تماماً مثل حالة مصر في الفترة التي أنتجت أمثال حسن البنا) سيسلّم بكلّ محاور المنظومة الأيديولوجية.
المؤامرة، إذاً، هي عقدة المنظومة، وبمجرد الاقتناع بها سيقبل الفرد تفاصيل لا نهائية يقدمها الخطاب مهما وصلت درجة لا عقلانيتها؛ فحتى يقبل المصري بأنّ الدولة الإسلامية ملاذه الأخير في العالم عليه أن يقبل بقمة الدوغمائية الكامنة في فكرة المؤامرة الغربية على الإسلام.
0 Comments: