ما قصة اللعنة التي لاحقت المرشحين لمرشد الإخوان بعد حسن البنا؟
إنّ البحث في تاريخ جماعة ما ليس ترفاً، فدراسة البدايات تكشف الطريق والمسار، ودراسة لحظات التحول وما اتُّخذ من قرار في ظل الأزمات يكشف من يدير الجماعة في الخفاء، لذا فمن المهم دراسة تلك الفترات بكل دقة، وعلى وجه الخصوص إذا كانت هذه الجماعة متصلة بالحراك اليومي، ولها تأثير واضح على الحياة الفكرية والثقافية للفرد والمجتمع ومؤسسات الدولة.وجماعة الإخوان المسلمين، اتفقنا أو اختلفنا بشأنها، هي من تلك الجماعات التي تتصل بالناس، وتؤثر على اختياراتهم وقراراتهم، مما يدفعنا لدراستها وإلقاء الضوء على طريقة اتخاذ القرارات المصيرية فيها.
أحد أهم منعطفات جماعة الإخوان المسلمين؛ تلك التي تلت مقتل حسن البنا، مرشد ومؤسس الجماعة، فقد سبقت مقتله أحداث جسيمة شاركت الجماعة في صناعتها وانتهت نهاية مأساوية، فعندما شاركت الجماعة في الثورة اليمنية على الإمام يحيى حميد الدين وقتله، فشلت الثورة وتعرض قادتها للإعدام، وحتى عندما شاركوا في حرب 1948 بأعداد رمزية؛ انتهت الحرب بهزيمة العرب وإعلان قيام دولة "إسرائيل"، وعند مشاركتهم القوى الوطنية في المظاهرات التي تطالب بالحريات والاستقلال، تحولت إلى اضطرابات داخلية انتهت بإعلان حل الجماعة وتنظيماتها، ثم تطورت الأحداث إلى اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، ثم في لحظة أكثر مأساوية بالنسبة للإخوان المسلمين تم مقتل المرشد العام والمؤسس الأول للجماعة، حسن البنا.
في كافة المؤسسات التنظيمية، السرية والعلنية، يحظى الرجل الثاني بحضور قوي ومشاركة فعالة في إدارة التنظيم، تسمح له بالقيادة بشكل سلس في غياب القائد الأول، بيد أنّ الأمر مختلف في جماعة الإخوان المسلمين، فكلما ظهر الرجل الثاني القادر على إدارة الجماعة، تخلص منه التنظيم بشكل أو آخر، فقد تخلّص حسن البنا نفسه من نائبه ووكيله وشريكه في تأسيس الجماعة أحمد السكري، الذي لو كان موجوداً بعد مقتل حسن البنا لأدار الجماعة بكفاءة أكثر في ظل غياب شبه متعمد للقائد البديل وتكريس لمركزية القائد المرشد في بنائية الجماعة.
حتى عندما أجبرت الأحداث الإخوان أن يختاروا مرشداً جديداً بعد مقتل البنا، وعندما حصروا الشخصيات المؤهلة لملء الفراغ ظهرت أسماء ثلاثة أشخاص يصلح كلّ منهم أن يكون مرشداً، لكن لسبب غامض لم يختاروا أيّاً منهم! بل سرعان ما قاموا بفصلهم الواحد تلو الآخر، وكأنّ المطلوب أن تظل الجماعة بدون رجل ثانٍ قوي يرث القيادة!
فالمرشح الأول الشيخ أحمد حسن الباقوري مرشح الشيوخ الأصوليين في الجماعة (الأزاهرة) والشيخ المستنير ورجل الجماعة والشاعر المعروف والواعظ المهندم، والشخص الوحيد الذي ائتمنه حسن البنا على قيادة الجماعة من بعده، فأدارها في أحلك فتراتها وبشهادة الإخوان، عندما عرض عليه منير دلة منصب المرشد العام رفض وقال إنّه لا يسعى للمنصب، وبدلاً من التشبث به، أو توظيفه توظيفاً يليق بقدراته، قامت الجماعة بفصله؛ لأنّه قبل منصباً وزارياً في حكومة الضباط الأحرار بعد ثورة 23 يوليو.
بدا الفصل وكأنّه محاولة للتخلص من شخص قادر على إدارة الجماعة، ومن الممكن منافسة الهضيبي مستقبلاً، وإلا فإنّ الاشتراك في حكومة عبدالناصر كان يجب ألا يعتبرها الإخوان جريمة تُخلّ بعضوية الباقوري في مكتب الإرشاد ولا في الجماعة، فالإخوان كانوا موافقين على الاشتراك في الحكومة، والخلاف كان على الأسماء وطبيعة الحقائب الوزارية لا أكثر، فما الداعي لكل تلك القسوة في فصل الباقوري!
أما المرشح الثاني فهو صالح عشماوي الذي ولد بالقاهرة في 4 كانون الأول (ديسمبر) 1910، وحفظ القرآن الكريم كاملاً وهو في سنٍّ مبكرة، وتدرَّج في دراسته بتفوق حتى تخرج في كلية التجارة العليا العام 1932، والتحق بجماعة الإخوان المسلمين العام 1937، واختير عضواً بمكتب الإرشاد فى وقت مبكر، ثم اختير وكيلاً للجماعة العام 1947، وهو مرشح التنظيم السري والرجل القادر على إدارة الجماعة بتشكيلاتها السياسية والسرية والعسكرية مع المحافظة على الهوية الإسلامية الأصولية، التي صبغت الجماعة نفسها بها، وصاحب امتياز صحف الإخوان.
عندما عرض عليه منير دلة منصب المرشد العام رفض قائلاً إنّ هذه مسألة تخص أعضاء الهيئة التأسيسية، وبصفته وكيلاً للجماعة لا يمكن أن يفرط في حق الهيئة التأسيسية في انتخاب المرشد الجديد وفق ما تنص عليه اللائحة.لا أحد من مؤرخي الإخوان يجيب عن سؤال: لماذا لم يرضخ منير دلة لرأي صالح عشماوي؟ ولم يعد للهيئة التأسيسية لتحدد هي من يتولى منصب المرشد التالي لحسن البنا؟ خصوصاً أنّ اللائحة تنظم ذلك، ورغم هذا حرص عشماوي على عدم شق الصف وقبل بالهضيبي مرشداً، واستمر يحاول إصلاح الجماعة من الداخل، لكن هيهات! فترشحه السابق يطارده، وبعد أسابيع من فصل الباقوري تم فصله من الجماعة!
هذه القامة التنظيمية من وثق فيه حسن البنا مبكراً وأرسله نائباً عنه إلى الهند والباكستان التي كان زعيمها محمد علي جناح العام 1947؛ تم فصله بطريقة مهينة؛ فبعد مجموعة من القرارات المتخبطة من مكتب الإرشاد بخصوص فصل قيادات التنظيم الخاص، وهم: عبد الرحمن السندي وأحمد عادل كمال وأحمد ذكي ومحمود الصباغ، التهبت العواطف وثارت غضبة البعض فتجمهروا في بيت المرشد ليثنوه عن هذه القرارات في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1953، ولما رفض المرشد تجمهرهم، انتقلوا بغضبهم الى المركز العام للإخوان، ولم يكن هناك صوت عاقل يهدئهم غير عضو مكتب الإرشاد صالح عشماوي، الذي قام -حسب رواية أحمد كمال في كتابه النقاط على الحروف- بالاستماع للمتجمهرين وتهدئتهم، مما اعتبره أنصار المرشد الهضيبي دليلاً على تآمره، وأنّه يدبر انقلاباً لينصّب نفسه مرشداً، ثم صدر قرار بفصله وآخرين من الجماعة!
أما المرشح الثالث فهو عبد الرحمن الساعاتي شقيق حسن البنا، ومرشح البسطاء من الإخوان المسلمين؛ من غير العسكريين أو الأصوليين، باعتباره من المؤسسين الأوائل للإخوان، فقد ضم جمعيته (الحضارة الإسلامية) إلى الإخوان المسلمين وقت أن كان البنا في الإسماعيلية، وكانت جمعيته أكثر نشاطاً في جذب شباب الأزهر، منهم الشيخ محمد فرغلي والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد أحمد شريت وأخواه حامد شريت وأحمد شريت، والشيخ عبداللطيف الشعشاعي، والأستاذ محمد النبراوي، والشيخ جمال العقاد السوري الحلبي، لكن جمعية الحضارة كانت الأقل تمويلاً، وهو من من نفس بيت حسن البنا وشبيهه وله نفس قدرته الخطابية، فهو شاعر الجماعة المعروف وأديبها المميز، كما أنّه يعلم كافة الأسرار التي تكتنف الجماعة تأسيساً وتمويلاً.
وعندما عرض منير دلة منصب المرشد العام عليه قبله مستعيناً بالله على مهامه، وحتى الآن لا أحد يعلم لماذا لم يحصل عليه؟ وإذا كانت الجماعة تعمل بمبدأ أننا لا نعطيها لمن طلبها فالرجل لم يطلبها بل عُرضت عليه، ورغم هذا بايع الهضيبي مرشداً، وظل عضواً بمكتب الإرشاد.
وفي آذار (مارس) 1954 عندما ألقت السلطات القبض على الهضيبي ومعاونيه عبد القادر عودة وعمر التملساني وصالح أبو رقيق ولم يبق من مكتب الإرشاد إلا منير دلة ومحمد حمد أبو النصر وعبد الرحمن الساعاتي، قرروا اختيار شخص يدير الجماعة في ظل غياب المرشد.
وللمرة الثانية تظهر شخصية عبدالرحمن الساعاتي كمنقذ للجماعة، ويحكي محمد حامد أبو النصر عن تلك المرحلة في كتابه "حقيقة الخلاف بين الإخوان وجمال عبد الناصر": "فقال الدكتور كمال خليفة حقيقة إنّ قيادة الجماعة مهمة وتحتاج إلى نشاط ومتابعة وعمل مستمر، وأنا كما تعلم مشغول ووقتي لا يسمح، ويستحسن أن يكون الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي هو الرجل المسؤول في هذه الظروف، فقال الأستاذ عبد الرحمن: أنا مستعد يا فندم لأن أتحمل كل المسؤولية على شرط أن نضع ميثاقاً لهذا العمل، وقام إلى مكتبه وكتب شهادة أو إقراراً يحتوي على أنّه هو المسؤول الآن عن الإخوان المسلمين؛ وطلب مني (الكلام على لسان محمد حامد أبو النصر) ومن الدكتور كمال خليفة التوقيع على هذه الوثيقة، فما كان من الدكتور كمال إلا أن قال: لا بأس أعطني قلمك ووقع على هذه الورقة وطلب إليّ التوقيع عليها فرفضت وقلت: لا أوقع، وهنا غضب الأستاذ عبد الرحمن وقال: أنت لا تثق".
ثم حاول الساعاتي حل سوء التفاهم الذي تسبّب فيه قادة الإخوان مع الضباط الأحرار، فأفسد عليه رجال الهضيبي تلك المحاولات واشتدت الأزمة، ثم وقعت محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية، وما تبعها من إجراءات، هنا أدرك عبدالرحمن الساعاتي أن لا مكان له ولا مكانة في جماعة الإخوان فلم يعد إليهم ثانية.
ثلاثة مرشحين تم فصلهم من الإخوان بعد تولي حسن الهضيبي منصب المرشد العام، فمن المستفيد من طردهم من الجماعة، وكل واحد منهم كان يملك المهارة الكافية لإدارة الجماعة بشكل صحيح للقيام بدورها الدعوي، ثلاثة يملك كل واحد منهم رصيداً كبيراً في صفوف الإخوان، فماذا فعلت الجماعة بهم؟ هل ادخرتهم لسد عجز فراع القيادة، هل تمكنت من توظيفهم في مسارات الجماعة؟ طبعاً لا، بل طردتهم وطاردتهم وكأنّ كل جريمتهم أنّهم كانوا مرشحين لمنصب المرشد العام يوماً ما!
0 Comments: