سعيد النورسي.. الإسلام الاجتماعي في مواجهة الإسلام السياسي
دائماً ما يصاحب المراحل التاريخية الفاصلة في حياة الأمم والشعوب ظهور شخصيات تحمل أفكاراً جديدة وتنادي بها، تسعى عبرها للتوفيق بين المتناقضات والتوليف بين معالم زمن يمضي ومتطلبات آخر مقبل يفرض واقعه.
كان النورسي أحد الأسماء التي عاصرت مرحلة نهاية الدولة العثمانية وانبعاث الجمهورية التركية الحديثة ذات الطابع العلماني، وتزامن ذلك مع تزايد الحضور الطاغي للفلسفات الماديّة والإلحاديّة، فكان جانب كبير من فكره بمثابة ردّ فعل واستجابة لهذه التحوّلات.
ولد سعيد النورسي عام 1877 في قرية نورس ببلاد الأكراد، جنوب شرق تركيا، بدأ رحلته في طلب العلم بتلقي التعليم التقليدي في كُتّاب القرية، ومن ثم شرع يقوم برحلات وينتقل بين بلدات ومدن شرق الأناضول، ويتصل بالمزيد من المشايخ والعلماء. اقتصرت دراسته بدايةً على العلوم التقليدية، من النحو والصرف وحتى علوم العقيدة والفقه، قبل أن يبدأ بالتوسّع وينتقل للتعمق في قراءة العلوم المختلفة، بما في ذلك الاطلاع على الفلسفات والعلوم الحديثة.
كانت الصراعات الفكرية تتصاعد أثناء تلك الفترة في الدولة العثمانية، فمع تراجع الدولة وضعفها، وتزايد الضغوطات من الخارج، بدأت تطرح التساؤلات حول أصل علل السياسة والمجتمع، وترافق ذلك أيضاً مع طغيان المذاهب والفلسفات المادية في الغرب، وتزايد تأثر المثقفين الأتراك بها، كل ذلك طرح المزيد من الأسئلة والتحديات على أتباع التيار الإسلامي، الذين حملوا على عاتقهم مهمة تقديم تفسيرات جديدة تستجيب لتحديّات العصر ومستجدّاته.
انتقل النورسي في رحلة جديدة نحو جنوب البلاد، وبالتحديد إلى مدينة ماردين، عام 1892، وهناك ركّز جهوده في إلقاء الدروس والخطب التي ضمّنها مفاهيمه ورؤاه في الإصلاح والتجديد، وعام 1894؛ رحل إلى الشرق مجدداً، واستقر في مدينة "وان"، وبقي فيها خمسة عشر عاماً، قضاها في التدريس ومحاولة إرشاد وإصلاح أهلها.
عام 1907؛ اتجه النورسي نحو عاصمة الدولة، إسطنبول، وهناك اتصل مباشرة برأس النظام، السلطان عبد الحميد الثاني، وقدم له مقترح مشروع لإنشاء جامعة إسلاميّة شرق البلاد، تكون أساساً للنهضة العلميّة هناك، أسماها بـ "مدرسة الزهراء" على غرار "الجامع الأزهر"، وكان يريد منها أن تكون نموذجاً للتجديد والإصلاح الفكري والديني؛ حيث تدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الطبيعية الحديثة، وهو الاتجاه الذي كان النورسي قد خَلُصَ إلى تبنّيه وعبّر عنه بقوله: "ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك".
بعد إسطنبول، اتجه النورسي إلى "سلانيك"، وهناك التقى بكبار شخصيات جمعية "الاتحاد والترقي"، الجمعية العلمانية التي كانت تقود الحركات المعارضة للسلطان، فرحّبوا به، باعتباره من دُعاة الحرية والشورى ورفض الاستبداد، وهي الجمعية التي قادت بعدها بعام، عام 1908، انقلاباً على السلطان عبد الحميد، أعلنت على إثره إعادة تفعيل الدستور، لكن اللقاء بينهم انقطع سريعاً، عندما اتضح له بعدهم عن الدين وارتباطهم بما رآه أفكاراً وأنشطة تغريبيّة تسعى لنشر الانحراف والانحلال في المجتمع، وفي العام التالي؛ قرر النورسي، عام 1909، تأسيس جمعية مناظرة باسم "الاتحاد المحمدي" تكون مهمتها التصديّ لدعاة العلمانية.
قُبيل الحرب العالمية الأولى، شارك النورسي في حرب البلقان، عام 1912، كقائد لقوات الفدائيين المتطوعين القادمين من كردستان، وبعد اندلاع الحرب العالمية، شارك مع مجموعة من العلماء بإصدار فتوى للجهاد، ثم تطوّع مع مجموعة من طلابه وشارك في القتال على الجبهة الشرقية ضدّ روسيا، وهناك جُرح وأُسر وسيق إلى معتقلات الأسر في سيبيريا، ولم تكتب له النجاة إلا مع قيام الثورة البلشفية، عام 1917، وانفلات الأوضاع، فتمكن من الهرب والعودة إلى بلاده.
عاد النورسي إلى بلاده، وهذه المرة توجّه إلى أنقرة، العاصمة السياسية الجديدة للبلاد، التي اتخذها أتاتورك في مواجهة الخلافة المعتصمة بإسطنبول/ وهناك واصل النورسي مشروعه لخدمة الإسلام من خلال التأثير على رأس السلطة السياسة الحاكمة، وهو ما فشل فيه مجدداً لتبدأ بذلك عنده سلسلة من التحوّلات الجذرية على مستوى الفكر والممارسة.
جاءت نقطة التحوّل الفاصلة إثر اندلاع التمرد الذي قاده الشيخ "سعيد بيران" في مناطق الأكراد شرق البلاد، والذي اعتبر وأتباعه أنّ سلطة أتاتورك هي سلطة علمانية مرتدة عن الدين لا تجب طاعتها، وتحديداً بعد إقدام أتاتورك على إلغاء منصب الخلافة، عام 1924، والذي تصدّت له السلطة الحاكمة في أنقرة، وتدخل فيه الجيش بشكل حاسم، وكان موقف النورسي من الأحداث هو رفض الانخراط والمشاركة في القتال ورفض تأييد التمرّد، رغم الطبيعة الدينية له، ليتبلور منذ ذلك الحين موقف جديد عنده من السياسة والمشاركة فيها.
منذ تلك اللحظة، تبلور موقف النورسي، باعتباره غير مؤمن بتغيير النظام عن طريق الثورة والصدام مع السلطة، وإنما عن طريق القيام بإرشاد الناس إلى حقائق القرآن الكريم وإلى حقائق الإيمان، واتجه النورسي نحو بلورة قناعته بأنّ القوة السياسية المنقادة للوجدان والمحاكمة الإسلامية ستحلّ جميع مشاكل المجتمع.
لم يشارك النورسي في التمرد واختار العزلة والتأمل والتدريس، لكن ذلك لم يمنع من تعرضه للاستهداف ضمن حملة شرسة شنّها الحكم على التيار الإسلامي المواجه للنظام العلماني الجديد، عام 1926، وبعد محاكمة، نُفي سعيد النورسي إلى مقاطعة إسبرطة بعد توجيه عدة اتهامات له منها مخالفته القرارات ومواصلته رفع الأذان بالعربية.
وفي إسبرطة، وبعدما بدأت تعاليمه بجذب تلاميذ وأتباع من حوله، قام حاكم المقاطعة بنفيه إلى قرية "بارلا"، وفي هذا المنفى بدأت مرحلة جديدة من حياة النورسي، فانتقل، وفق تعبيره، من مرحلة "سعيد القديم"، التي كان فيها يحاول خدمة الإسلام من خلال السياسة، ويلخّصها في "رسائل النور" (كتابه الأشهر) بقوله: "لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشرة أعوام علّه يخدم الدين عن طريقها فذهبت محاولاته أدراج الرياح"، وانتقل إلى مرحلة "سعيد الجديد"، التي طلّق فيها السياسة، رافعاً شعار "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة"، معتبراً أنّ السياسة ذات خطورة وأغلبها خداع وأكاذيب.
في هذه المرحلة الجديدة، انصرفت اهتمامات النورسي إلى النواحي الإيمانية والقضايا الاعتقادية، وأخذ على عاتقه مهمة "إنقاذ الإيمان"، وذلك بعد التيقن من استحالة خدمة الإسلام بالدخول في معترك السياسة وصراعاتها، وتعزز عنده المعتقد، أولوية إصلاح الأنفس والمعتقدات بدايةً، مع الاتجاه للزهد بمتاع الدنيا.
في بارلا، كتب النورسي قرابة الثلثين من عمله الأشهر "رسائل النور"، وبدأت هذه الرسائل بالانتشار بين تلاميذ النورسي في عموم البلاد. وضع النورسي فيها خلاصة أفكاره وتأملاته، وركّز على ما أسماه بـ "الجهاد المعنويّ" والذي هو "جهاد الكلمة" و"جهاد النفس"، الجهاد غير المادي، والذي يكون بمواجهة الماديّة والإلحاد، أخطر الأعداء في هذا العصر.
وخلال ثمانية أعوام ونصف من النفي في بارلا، استطاع النورسي استقطاب مئات الشباب من الأتباع والطلاب الذين ساهموا في نشر رسائله وتوزيعها في أرجاء تركيا كلها، ليكون النورسي بذلك المخترع لفكرة بناء التنظيم الاجتماعي الشبكي الإسلامي، والذي تجسد حينها في حركة هدفها بعث الدين في المجتمع التركي والتصدي للإلحاد.
وعام 1935، وبعد انتشار الرسائل وازدياد عدد الأتباع، اعتقل النورسي، ونحو مئة وعشرين من طلابه، واتهموا بتكوين جمعية سرية ومحاولة قلب نظام الحكم، وسجنوا في مدينة إسكي شهر، وبعد قضائه أحد عشر شهراً في السجن، نفي إلى مدينة قسطموني، وهناك أكمل نشر رسائله وتوزيعها.
بقي النورسي يتنقل بين عدد من السجون حتى عُفيَ عنه، عام 1956، وفي العقد الأخير من عمره (1956-1966)، استقر النورسي في مدينة إسبارطة، وبعد إطلاق التعدديّة والأحزاب السياسية في تركيا، أشار على أتباعه بالتصويت للحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس، والذي كان قد أطلق بعض الحريّات الدينية، وتزامن صعود جماعة النورسي، خلال الخمسينيات والستينيات، مع تبني الدولة التركية سياسة مكافحة الشيوعية والاشتراكية وانضمامها لحلف الناتو، وتقاربها مع المعسكر الغربي، فكان النورسي يعلن أنّ الشيوعية هي العدو والخطر الأكبر في العصر، وكانت السلطات قد سمحت بطباعة الرسائل ونشرها، وبذلك كان نشاط النورسي وجماعته، في جانب منه، أداة ووسيلة بيد النظام الحاكم في مواجهة التيارات اليسارية.
وخلال العقود اللاحقة، وعلى صعيد علاقة الجماعة النوريّة بالأحزاب والحركات الإسلامية الصاعدة في تركيا، اختارت الحركة معارضة هذه الأحزاب وذلك إبّان نشأتها وصعودها منذ السبعينيات، مع تأسيس حزب السلامة (1972)، ثم الرفاه (1983)، ثم حزب الفضيلة (1998)، وهو التيار الذي تبلور وعُرف بكونه تيار "نجم الدين أربكان"، والذي انتهى مع مطلع الألفيّة الجديدة إلى تجربة حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان.
وكان جانب أساسي من معارضة الجماعة لهذا التيار السياسي الإسلامي يأتي من اعتبار السياسية أمراً خبيثاً، وكانت الجماعة تعيب على تلك الأحزاب انخراطها في العملية السياسية المبنية على أساس علماني، وقد تجلّت هذه المعارضة وبلغت ذروتها في تأييد الجماعة للانقلاب العسكري على حكم حزب الرفاه، عام 1997.
واليوم؛ تعدّ جماعة فتح الله غولن (حركة الخدمة) الامتداد الأهم للجماعة النوريّة، وتستوعب حوالي ثمانين بالمئة من النوريين، ويعدّ فتح الله غولن من أبرز أتباع النورسي، وكان قد قرأ "رسائل النور"، وتأثر بها منذ عمر مبكر.
وفي مقابل نجم الدين أربكان، الذي يعدّ أبا الإسلام السياسي في تركيا، فإنّ فتح الله غولن يعدّ أبا الإسلام الاجتماعي، الذي ينطلق من رؤية تؤمن بأنّ التغيير يحدث من القاعدة لا عبر الاشتباك المباشر مع السلطة.
0 Comments: