"أشواك" سيد قطب.. هل تصنع المرأة متطرفاً؟
ربما لا تنتهي قصة عشق رجل لامرأة بمجرد الفراق، بل يمكن أن تغوص في نفسه ولا وعيه لتُدفن في أغوار أعماقه، تاركة جراحاً حيّة لا تندمل، تدفعه في اتجاهات عديدة وغامضة، وتحوّل مسار حياته.
وقد تدفع الصدمة، والآثار الغائرة القديمة، في قلب الرجل إلى التمرد على المجتمع كلّه، إن خدعته المرأة، أو خانته، أو رفضت حبّه، أو حطّت من كبريائه، حتى لو كان ذلك نابعاً من شكّ أو توهّم.
انشغل المتخصصون بالمنتوج الفكري المتشدّد، دون التفتيش في كوامن الإنسان المنتج لذلك الفكر وطفولته، وما تعرّض له في مراهقته وشبابه، ومن أسرته، ومحيطه، ومجتمعه.
واهتم الباحثون بأفكار سيد قطب؛ ذلك الرجل الذي دشّن قواعد راسخة تأسّست عليها جميع التنظيمات الإرهابية والعنيفة، لكنّهم لم يضعوا تحت مجهرهم المرأة في قلبه، وما صنعت به.
مع أنّ قطب نفسه أفرد رواية كاملة تحدث فيها عن قصة حبّ عاشها، اختلط فيها العشق بالشكّ القاتل للتجربة، وبالورد المليء بالأشواك، والعسل المختلط بالمرّ، والحنين المنتهي بالضياع.
تجربة شخصية
"أشواك"؛ رواية حاول الجميع إسقاطها من أعمال سيد قطب، سواء كانوا من أنصاره ومحبيه، أو من أعدائه وكارهيه، فالإسلامويون يرون أنّه كتبها عندما كان غارقاً في "الجاهلية"، ولم يهتد لنور الإسلام بعد، والعلمانيون عدّوها منتجاً أدبياً ضعيفاً، حاول صاحبه أن يخترق مجال الأدب والرواية، لكنّه فشل، فذهب إلى مساحة أخرى رأى فيها نفسه، وهي مساحة الفكر الإسلامي المتطرف.
لكنّ "أشواك"؛ التي صدرت العام 1947، عن دار سعد بالفجالة في مصر، لم تكن رواية ضعيفة من الناحية الأدبية، وبمعايير عصرها، كما أنّ قطب لم يكتبها حتى يخترق بها عالم الأدب، وهو أحد أبرز كتّابه في ذلك الوقت؛ بل لأنّه أراد أن يهديها إلى حبيبته "بطلة الرواية"، وينفث بها آلام تجربته المريرة.
كتب قطب في روايته عن قصّة حبّ حقيقية عاشها بنفسه مع خطيبته، وقد أهداها إليها، وأطلق عليها اسم سميرة، كما أسمى نفسه سامي، يقول في الإهداء: "إلى التي خاضت معي في الأشواك، فدميت، ودميت وشقيت، ثم سارت في طريق، وسرتُ في طريق: جريحين بعد المعركة، لا نفسها إلى قرار، ولا نفسي إلى استقرار..".
ولم تنشر هذه الرواية مرة أخرى، حتى أنّها لا توجد في مكتبات مصر العامة؛ كدار الكتب، أو مكتبات الجامعات المصرية، وقد أعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب نشرها، بعد ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير)، وقدّم لها الناقد الأدبي شعبان يوسف.
الجنوبي العاشق
كانت لوالدة سيد قطب شخصية قوية وصلبة، وهي ابنة قرية "موشى"، التابعة لمحافظة أسيوط، جنوب مصر، فأصرت على تعليمه وإخوته، فأرسلتهم إلى القاهرة، فتأثّر الشاب بثنائية (القرية والمدينة والمحافظة والتحرر).
تلاطمت الثنائيات في وجدان الشاب الريفي، حين وقع في حبّ فتاة قاهرية، اكتشف فجأة -يوم خطوبتها- أنّها كانت، وما تزال، تعشق شاباً آخر، فطعنته بشوكة في وجدانه، لم يستطع انتزاعها دون أن تدمي فؤاده.
يحكي الصدمة الأولى في الفصل الأول من الرواية: "حينما أمسك بيدها ليلبسها خاتم الخطوبة، في حفل من الأهل والأصدقاء، وفي ضوء الأنوار الساطعة، وعلى أنغام الموسيقى في الحجرة المجاورة، أحسّ بيدها وهي ترتعش متقلصة في يده، ونظر فإذا دمعة تندّ من عينيها.
شعر بشوكة حادّة تنغرز في فؤاده، وغامت الدنيا في عينيه، وتوقّع شرّاً غامضاً يوشك أن ينفض، بل شعر بالكارثة تظلّله، وتغشي حياته".
كانت الفتاة تستعدّ لصدمه، والخلاص من الحمل الثقيل الذي يثقل كاهلها، لكن في سبيلها لذلك، غرست الأشواك في قلبه، في نهاية قصتها كانت تقول، وهي تهتزّ وتختلج: "وهذه الدمعة التي رأيتها لم يكن منها بدّ، كنت أشيّع بها عهداً عزيزاً، كان اللّحن الموسيقي من حولي هو لحن الجنازة، أشبع به نعشه للمرة الأخيرة، والآن لقد انتهى ...".
يصف شعوره فيما بعد الصدمة: "أحسّ في هذه اللحظات القصار أنّه يشيخ، وكان يحبّها حبّاً عنيفاً مجنوناً... وكان شديد الغيرة، متوفز الإحساس".
لم تكن لديه (بطل الرواية) قدرة على الصفح، وهو الجنوبيّ الغيور، لكنّ لم تكن لديه قدرة على نسيانها أيضاً، يكمل وصفه في شعور ما بعد الصدمة: "لقد أحسّ بالطعنة، وعرف أنّه فقد الحلم القديم، حلم الحورية الهاربة التي سيقودها مغمضة العينين إلى العشّ المسحور، بعد أن عاش في هذا الحلم عامين كاملين، وبعد أن سحر بها منذ اللقاء الأول، وأعدّ نفسه وأحاسيسه كلّها لارتقاب اليوم الموعود، وجد نفسه يبكي، ثم أدركته رحمة الله فنام".
الشكّ القاتل
أجاد قطب، في روايته، التعبير بوضوح عمّا يختلج في صدره تجاه محبوبته، التي أيقن أنّ قلبها مسكون بحبّ غيره، لكنّه عاد إليها، بدعوى أنه يستطيع أن يجمعها بحبّها القديم، بينما ينسحب هو في هدوء النبيل الشهم، الذي لا يرضى أن يكره فتاة على الزواج منه، إلّا أنّه فوجئ بأنّها ترى أنّه يستحق أفضل منها؛ فهو الطيّب النبيل، وهي الشريرة الآثمة.
وعدها بأنّه سيتخلص من الأشواك، بعد أن رفض محبوبها الأول العودة إليها، لكنّه اصطدم بما زاد أشواكه؛ عندما عرف من الحبيب الأول أنّها ذهبت إليه ذات مرة في معسكره، فاشتعلت التخيلات في عقله، وظنّ أنّها دخلت معه خيمته، ثم اكتشف أنّ ذلك لم يكن صحيحاً؛ بل تمشّت مع الأوّل على رمال صحراء الأهرامات.
يقول: "عاد إلى داره موحش النفس مظلماً كئيباً، تجثم على صدره الكآبة، ويغشى نفسه الوجوم، وفي أعماقه سؤال غامض لا يسمح له بالظهور والوضوح: تراه أخطأ طريقه في هذا المشروع كلّه؟ وأنّ هذه الفتاة ليست له، لا هي ولا فتيات القاهرة جميعاً؟ إنّه يتطلب في فتاة أحلامه مفارقات لا تجود بها الحياة، يتطلب الحورية القاهرية المغمضة العينين، يتطلب الفتاة العذراء القلب والجسد، في زيّ قاهريّ، ويتطلب فيها الحساسية المرهفة والشاعرية المتوهجة، ومع هذا كلّه طيبة القلب وصفاء الروح".
تنضح من رواية قطب كراهية ظاهرة للقاهرة، وثقافتها، ونسائها، كان يبحث عن مثيلة أمّه، ابنة الصعيد، يبحث عمّن تمنحه الحبّ الأول والأخير..
يقول: "تراه أخطأ الطريق، فطلب الحورية العذراء في بنت من بنات القاهرة، أم تراه أخطأ الطريق من أوله، فطلب حياة زوجية لا تصلح له بحال؟ وفي مثل هذه الهواجس التي كان يصاحبها في نفسه، همّ ثقيل وهمود كئيب؛ لقد شعر بالفراغ والجفاف، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد، وما يصيب الصوفي بعد الضلال!
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود، لقد عادت الحياة تكلفاً لا يطاق، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه، وليس له منه إلا أجره الزهيد، إلا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل، ولو كانت تعمره الأصنام!".
استغرق قطب في وصف الأنثى المعشوقة، لكنّه لم يعطِ وصفاً للعاشق الذي لم يكن وسيماً، بأية حال: "لم تكن ممّا يحسبهن العرف جميلات، كان تكوينها الجسدي، إذا استثنينا صدرها الفاتن، ليس ممتازاً، ولكن كانت هناك في وجهها جاذبية ساحرة، كانت خمرية اللون واضحة الجبين، وفي عينيها وهج غريب تطلّ منه إشراقة مسحورة، وكان هذا الوهج أشبه شيء بالإشعاع الكهربائي المغناطيسي، ينبعث لحظة حين تشرق وتتوهج، وينطفئ على التوّ حين تذبل وتنطفئ، وقد لا يمضي بين اللحظتين إلا مقدار ما تدير زر الكهرباء!".
على عادة جيله، ذهب قطب في وصف الجسد وملامح الوجه والعينين، لكنّه بحكم تكوينه المحافظ لم يجرؤ على التغول في الوصف، ولم يذهب بعيداً، كما كان يذهب أبناء جيله.
يكمل قائلاً: "كانت خطوتها القافزة الرشيقة الخفيفة، وصدرها البارز الفاتن، وهذا الإشعاع السحري الغريب، لا تدع مجالاً للفحص عن بقية تكوينها، ولا تمهل الإحساس الدقيق في شيء منها، وكان يحسب نفسه يراها هكذا لأنّه يحبّ، ثم علم بالتجربة، أنّ الجميع يقفون تجاهها هذا الموقف، في كلّ مكان".
طلب أن تمنحه شيئاً من الحبّ فلم تبخل عليه، وبعد أن فعل اشتدّ لهيب الشكّ في داخله، فإذا كان لها أن تفعل ذلك معه، فإنّها يمكن أن تكون قد فعلته مع الحبيب الأول، يقول: "دخلا دار السينما، وجلسا متجاورين، وهو يحس بسعادة تفيض بها نفسه، في ودّ لو يعانق الكون كلّه، وتحركت ذراعه اليمنى فطوقت ظهر المقعد، وانزلقت عنه قليلاً فلمست ظهرها، واختلجت هي اختلاجة خفيفة، ثم استقرت، ونظرت إليه متوردة راضية، تمازجها الفتنة والإغراء، ولو كان النور مطلقاً لصنع شيئا آخر، لكنّ آدابه التقليدية لم تسمح له إلا بنظرة أودعها كلّ ما في قلبه من أشواك.
ثم أُطفئت الأنوار، وبدأت "الجريدة"، وتحركت ذراعه قليلاً، فسرت في جسده هزّة، ومالت إليه قليلاً، فصافح شعرها خدّه، وأحسّ بالنشوة، فثمل، وطافت برأسه الرؤى الغامضة في الفردوس النعسان!
وانتهت "الجريدة"، وأعقبتها الرسوم المتحركة، بمواقفها المضحكة، فانتفضت ضاحكة كالطفلة، وهي تتابع القصة في توفز ظاهر، ردّه من حلمه المهوم إلى يقظه طافرة ترقص فيها الحياة، وأعيدت الأنوار، فأحسّ نقلة عنيفة من عالم إلى عالم، وفرك عينيه، لا يدري أمن النور المفاجئ أم من النقلة المفاجئة؟ ثم أغمض عينيه واستغرق في أحلام.
ثم بدأت الرواية!
بدأت عادية في أول الأمر، فعاد هو يضع ذراعه فوق ظهر المقعد، ثم يحرّكها، رويداً رويداً، ثم يضغط بها ضغطاً خفيفاً، فتستجيب له في بطء، ينتهي بهما إلى حيث كانا في الفردوس النعسان!ولكن، يا للشيطان! إن القصة لتأخذ في طريقها، فتجري حيث تجري قصتها بالذات، إنّها قصتها ذاتها معروضة في شريط! فخرجا في صمت مطبق".
نهاية بلا زواج
ازداد شكّه في خطيبته المحبوبة، كلّما سمحت له بالاقتراب منها، فيصف كيف استطاع احتضانها وتقبيلها في المنزل، وعلى بعد عدة أمتار من والديها: "نسي المنزل ومن فيه، وهم على مقربة منهما، وراح يضمّها إليه في شوق عارم، ويهوي على شفتيها في لهف حرور، وأحسّ أنها تتذاوب فيه، وتتفانى بكاملها، وأنّها تستجيب له بكل ذرة فيها، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى، ولم يكن يملك إلا أن يضمّها في عنف، وهي تسكب في نفسه أحلى رحيقها المذخور، بهذه النظرة وتلك الفتنة، ثم تملّصت منه، وانفلتت تجري، وعاد هو إلى الحجرة نشوان، لكنّه تعبان! عاد وجلس، ولم يلحظ أحد منهم عليه شيئاً، ولو تنبه أحدهم إلى عينيه لرآهما تقطران نشوة وسكراً".
كانت النهاية بعد أن رآها عارية في منامه، وهو يحاول أن يسترها بقطعة قماش، وهي تمنعه من ذلك، فلما استيقظ ذهب إلى منزلها حتى يحدثها فيما رأى، ففاجأته بالقول إنّها لا تصلح له، لأنّها عارية، وطلبت منه أن يظلّا صديقين، فتقوى بإرادته الحديدية وذهب، لكنّه لم يستطع أن يتخلص من حبّها، ولا من الشكّ فيها، وفي طهارتها.
0 Comments: