هل تتخلى تونس عن سياسة المحاور الإقليمية؟
شهدت السياسة الخارجية لتونس، خلال السنوات الأخيرة، نقلة “نوعية” حيث أصبحت السلطة تفاوض شركاءها الأوروبيين والغربيين بندية ودون فرض إملاءات عليها، وهو ما يعتبره مراقبون مؤشر قوي على استعادة الديبلوماسية التونسية عافيتها، واسترجاع سيادتها الوطنية في صناعة القرار الداخلي.
وقد استقبلت تونس خلال أقل من شهر، بداية هذا العام، 3 وزراء خارجية من دول الشرق الوازنة، هي روسيا والصين وإندونيسيا، قبل أن يزورها لاحقا رئيس برلمان كوريا الجنوبية، في دليل على توجه قيادة البلاد نحو تنويع علاقاتها الدبلوماسية، وعدم الاعتماد بشكل شبه حصري على الغرب.
وعانت السلطة التونسية في العشرية الماضية من تبعات سياسة المحاور، وجعلتها تتخبّط في حالة من الانقسام والتشرذم الشعبي والسياسي الداخلي، الذي برز خصوصا في التجاذبات السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين.
وأفاد أستاذ القانون الدولي منتصر الشريف “بعد 2011 حادت تونس بعض الشيء عن ثوابتها الدبلوماسية خصوصا من ناحية الحياد والتدخل في اتخاذ القرار خارجيا، وظهرت سياسة التحالفات خصوصا في علاقة بالأزمة الليبية، وصعود الإسلاميين إلى السلطة في تونس، ورفض حكومة شرق ليبيا التعامل معهم”.وأضاف "سياسة المحاور أثرت على العلاقات الخارجية، وحتى داخليا في مستوى البرلمان الذي كان منقسما، وأنتج شارعا شعبيا منقسما"
وأردف الشريف "التوجه الجديد يجب أن يعيد الثوابت الدبلوماسية القديمة، وهذا لا يعني التخلي عن الغرب بقدر ما يعني تنويع العلاقات الدبلوماسية والانفتاح على كل الدول، كما أن شريك تونس الأول هو الاتحاد الأوروبي، وذلك لا يمنع من ربط علاقات شراكة مع قوى إقليمية ودولية أخرى".
يُذكر أنه في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2023، استقبل الرئيس التونسي قيس سعيّد بقصر قرطاج وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مرصودي، التي عبرت في تصريحات صحفية آنذاك عن "ارتياح بلادها لمستوى علاقات التعاون والتشاور والتنسيق التي تجمعها بتونس". في نفس اليوم، استقبل سعيّد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، حيث بحثا تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في عدة مجالات، بينها الطاقة والصحة والثقافة
كما أجرى وزير الشؤون الخارجيّة الصيني وانغ يي زيارة إلى تونس بين يومي 14 و16 كانون الثاني/يناير، وتبع ذلك زيارة أجراها رئيس البرلمان الكوري الجنوب كيم جين بيو إلى تونس على رأس وفد برلماني بين يومي 17 و19 يناير.
تعليقا على هذه الزيارات، اعتبر المحلل السياسي التونسي هشام الحاجي أن بلاده أمام طريقين لا ثالث لهما "إما أن تسير في طريق تنويع الشراكات والعلاقات وهذا مطلوب وضروري ويمكن أن يعود بالفائدة، وإما أن تختار تغيير طريقها بانعطافة سريعة نحو الشرق قد تكون تداعياتها السلبية أكثر من ثمارها ومكاسبها".
ورأى الحاجي، في حديث ، أن "قدر تونس هو أن تظل بعيدة عن التجاذبات الكبرى، وأن تحافظ إلى أقصى حد ممكن على مبدأ عدم الانحياز، وأن تكون شراكاتها وعلاقاته متنوعة، وهذا من أكبر الرهانات التي تواجه سياسة تونس في هذه المرحلة".ورأى أن "التوجه نحو الشرق واضح" في سياسات بلاده؛ فالعلاقات "أخذت تتطور سياسيا واقتصاديا مع روسيا والصين"، مضيفا: "حتى داخل منظومة العلاقات القديمة هناك تفضيل لإيطاليا على حساب فرنسا".
لكن الأهم، وفق ما يرى الحاجي، هو أن "نحسن قراءة التوازنات، وأن نحسن استغلال الوضع لفائدة تونس"، كما أن اللعب على التناقضات وإحداث تحول في العلاقات أمر مهم في السياسات الخارجية للدول، لكن المهم هو كيفية إخراج هذا التحول، والقدرة على إدراك التفاصيل والجزئيات واستغلالها.
ومؤخرا، تحدثت صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، وهي أول من أثار الوجود الروسي في تونس، عن رحلات جوية عسكرية روسية تحط رحالها في جزيرة جربة بالجنوب التونسي، معتبرة أن تلك الرحلات "تثير القلق كما لا تزال الطبيعة الدقيقة لهذه الأنشطة الجوية، سواء كانت لوجيستية أو غير ذلك، غير واضحة، لكن المخاوف التي تثيرها حقيقية".
لكن السفارة التونسية في فرنسا نفت ما بثته قناة "أل سي إي" الإخبارية الفرنسية عن وجود عناصر من مجموعة "فاغنر" الروسية بجزيرة جربة جنوب تونس، وأوضحت في بيان لها "أن القناة الفرنسية تواصل عملها في التضليل الإعلامي من خلال ترويج معلومات لا أساس لها من الصحة عن تونس من دون التحقق من هذه المعلومات مسبقاً من المصادر الرسمية"، مضيفة "التضليل الإعلامي رياضة يبرع فيها البعض".
وأكدت أن "القناة لا تحترم أخلاقيات المهنة التي تحكم العمل الإعلامي بشكل عام، وأن تونس بلد ذو سيادة وسيتمكن بمفرده من السيطرة على كامل أراضيه وحمايتها"، حسب بيان السفارة.ويعتقد الصحفي نزار مقني أن "تونس تسعى إلى إعادة صياغة سياستها الخارجية وتنوعها، وهذا ما تجلى بخاصة في استفادتها من دبلوماسية القمح التي عملت عليها موسكو منذ قمة روسيا - أفريقيا في سانت بطرسبورغ".
وتابع في السياق نفسه "تونس اليوم تبحث عن علاقات ندية مع الخارج وليست علاقات تبعية مثلما تريدها أوروبا والولايات المتحدة". ومن ثم "هذا الفتور في العلاقات بين تونس والغرب ستحاول روسيا أن تملأه، وهي اللعبة نفسها التي تمارسها في كل المناطق سواء في أفريقيا أو حتى في الشرق الأوسط والأمر نفسه بالنسبة إلى الصين".
وتحضر الصين كمنافس رئيس لدول الاتحاد الأوروبي في المناقصات الدولية التي تطرحها تونس، تزامنا مع تحركات دبلوماسية مكثفة لدول المعسكر الشرقي أهمها الصين وروسيا التي تعمل على توسيع حضورها الاقتصادي في تونس. ويؤكد فوز الصين بمناقصة جسر بنزرت، وفق الخبراء، بوادر تحولات في الارتباطات الاقتصادية لتونس التي تتجه شرقا على حساب الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر شريكها التاريخي.
ومنذ 2022 وقعت تونس اتفاقا مبدئيا على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي، غير أنها لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن تمويل بقيمة 1,9 مليار دولار بسبب تشدد الصندوق في شروط إصلاح قاسية رفضها الرئيس قيس سعيد. كذلك ربطت كل الدول المانحة تقديم مساعدات مالية لفائدة تونس بإحراز هذه الأخيرة تقدما في مفاوضاتها مع الصندوق وتوقيع الاتفاق النهائي معه.
وفي تموز/يوليو الماضي، وقعت تونس والاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم لإرساء "شراكة استراتيجية وشاملة" في التنمية الاقتصادية والطاقات المتجدّدة ومكافحة الهجرة غير النظامية. ويتضمن الاتفاق تقديم مساعدة لتونس بقيمة 105 ملايين يورو لمكافحة الهجرة غير النظامية، إضافة إلى 150 مليون يورو لدعم الميزانية. لكنّ هذه المساعدة مشروطة بتوصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول منه على قرض جديد.
وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد رفضه لعرض الدعم المالي لميزانية تونس الذي قدمه الاتحاد الأوروبي، معتبرا أن المقترح يتعارض مع مذكرة التفاهم الموقعة بين بلاده والاتحاد الأوروبي. وقال سعيد في لقاء جمعه بوزير الخارجية نبيل عمار حينها، إن تونس تقبل بالتعاون، ولا تقبل بما يشبه المنّة أو الصدقة، مؤكدا رفض بلاده لما تمّ الإعلان عنه من قبل الاتحاد الأوروبي.
0 Comments: