للهروب من العقوبات الدولية.. الكشف عن شبكة حوثية سرية لغسيل الأموال
كان الاشتغال البحثي على واقع المشروع الإخواني متواضعاً في الساحة الفرنسية طيلة العقود الماضية، بل إنّ عدد الإصدارات التي تحيل في عنوانها على الإخوان المسلمين هناك تكاد تُعدّ على رؤوس أصابع اليد الواحدة، مقابل فورة الإصدارات التي كانت مخصّصة بشكل عام للإسلاموية، مع تركيز كمّي ونوعي على الظاهرة الجهادية.
إلّا أنّه جرت تطورات ميدانية، أفضت إلى ارتفاع وتيرة الخوض في الموضوع، ليس من قبل المنابر الإعلامية وحسب، وخاصة المنابر اليمينية، فهذا تحصيل حاصل، وإنما حتى من جهات لم يسبق لها أن تطرّقت للموضوع قطّ من قبل، ونتوقف هنا عند إشارتين على الأقل:
ــ الإشارة الأولى ما قامت به "مجلة العالمان"، التي نشرت ملفاً عن جماعة "الإخوان المسلمين" في فرنسا، وليس الإخوان في مصر أو في المنطقة العربية، وهي مجلة فكرية يمينية، وصدر الملف منذ عامين بالضبط، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 تحت عنوان صريح: "الإخوان المسلمون: استراتيجياتهم في فرنسا" (2019).
ــ أمّا النموذج الثاني، فقد جاء مع التقرير الصادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي، والمؤرخ في 7 تموز (يوليو) 2020، حيث نقرأ لأول مرّة في الساحة الفرنسية تقريراً لمؤسسة تشريعية مخصصاً بالتحديد للمشروع الإخواني في فرنسا، بل تحدث التقرير بشكل مباشر عن "خريطة إسلاموية"، وخصّ بالذكر (5) تيارات؛ وهي: تيار "الدعوة والتبليغ"، والتيار السلفي، والإسلاموية التركية، والحالة الجهادية، وأخيراً المشروع الإخواني، معتبراً أنّ "الخطر الفوري في فرنسا، الذي يمثله أكثر فأكثر أولئك الذين يقبلون على الانخراط بشكل من الأشكال في اللعبة السياسية، وهم الإخوان المسلمون"، متوقف في آنٍ واحد عند "عدد تقريبي لأتباع المشروع يناهز (50000) شخص".
هناك عدة مميزات خاصة بالمشروع الإخواني في فرنسا، مقارنة مع باقي التيارات الإسلامية الحركية، ويمكن التوقف عند اثنتين منها على الأقل:
ــ أوّلها أنه أكثر هوساً بالهاجس السياسي والتنظيمي مقارنة مع باقي التيارات الإسلامية، بل إنّ الهاجس السياسي غائب أساساً عند التيار السلفي أو تيار "الدعوة والتبليغ"، على غرار السائد إجمالاً في المنطقة العربية، والأمر نفسه مع الحالات الجهادية في فرنسا، مع أنها قلة، بينما الأمر مختلف مع المشروع الإخواني، باعتباره الأكثر حضوراً في المحطات الانتخابية، والأكثر هوساً بزعم الحديث باسم المسلمين.
ــ أمّا الميزة الثانية، فإنها تتقاطع مع أهداف الميزة الأولى، وعنوانها الانتشار التنظيمي الأفقي والعمودي، واختراق كلّ ما هو صالح للاختراق، حيث نجد إخوان فرنسا في العمل الطلابي والعمل السياسي والعمل الإعلامي والمجال الرقمي في أداء المنظمات الأهلية، بل حتى في سياق الاشتغال على ظاهرة "التخويف من الإسلام"، أو "رهاب الإسلام"، فقد كانت المؤسسة الوحيدة التي تشتغل على الموضوع خلال العقدين الأخيرين محسوبة على المشروع الإخواني، أي "التجمّع المناهض للإسلاموفوبيا في فرنسا"، الذي تمّ حلّه رسمياً في أوّل تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، بقرار صادر عن وزارة الداخلية، في سياق اشتغال صنّاع القرار على فتح ملف الإسلاموية الفرنسية، أي (3) أشهر بعد تقرير مجلس الشيوخ سالف الذكر.
أحصى أحد الباحثين العرب، من المتخصصين في الإسلاموية الفرنسية، (3) تيّارات تميز الأداء الإخواني هناك، والحديث عن الباحث سمير أمغار، الذي صدر له العديد من الكتب والدراسات حول الإخوان والسلفية في فرنسا، وفي أوروبا أيضاً، حيث يُفرّق بين "(3) تيارات في المشروع الإخواني: الأول التيار المستقل، أي التيار الذي لا ينتمي أساساً إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ولكنه تأثر بأدبياته وبأفكاره، وبناءً على ذلك، أسّسوا تنظيمات وأطلقوا مبادرات؛ ثم هناك التيار الثاني، ويهمّ المستقلين، أي الأفراد الذين كانوا أعضاءً في التنظيم، ولكنهم قرّروا الابتعاد عن المواقف السياسية للمشروع
وغالباً ما تصبّ انتقادات هذا الفصيل الثاني في أنّ التنظيم بيروقراطي، وينقسم هذا التيار بدوره إلى اتجاهين: اتجاه ما زال عضواً في المشروع، ولكنه يُعبّر عن نقده، مقابل اتجاه انفصل بشكل نهائي عنه، ولكنه أسَّس تنظيمات موازية، تنهل من التجربة الإخوانية؛ وأخيراً تيار ثالث، والمقصود به النواة الإخوانية المرتبطة بالمشروع الإخواني المصري، أي نواة تدين بالولاء للمرشد عبر البيعة"، وهذا التيار، في نسخته الفرنسية، مُجسّد في "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" الذي تأسّس من خلال مبادرة كانت نواتها تقودها كتلة طلابية قادمة من تونس وبعض اللاجئين السياسيين المشارقة، ويتقدّم الطلابَ التونسيين الإخواني أحمد جاب الله.
الحديث عن "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" مناسبة للتذكير بهاجس الحديث باسم المسلمين في العقلية الإخوانية، وهو هاجس يُكرّس عقلية الهيمنة ويُترجم الأفق السياسي للمشروع في آنٍ واحد، وبيان ذلك أنّ هذا الاتحاد سيقوم بتغيير اسمه في نيسان (أبريل) 2017، من "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" إلى "اتحاد مسلمي فرنسا"، على أساس أنّ مسلمي فرنسا الذين يتراوح عددهم بين (6 و7) ملايين نسمة، لديهم مؤسسة تمثلهم، وهي هذا الاتحاد، والحال أنّ الأمر خلاف ذلك، وهي جزئية دقيقة، تخدم المشروع الإخواني؛ لأنّه بالكاد النخبة البحثية وجزء من النخبة السياسية والإعلامية من تفطنت إلى هذه المعضلة، على اعتبار أنه رسمياً تبقى مؤسسة "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" تمثل المسلمين أمام السلطات الإدارية، بصرف النظر عن تواضع أداء هذه المؤسسة، ولكنّ تغيير اسم الاتحاد يصبّ في تكريس عقلية التقية أو الازدواجية في التعامل مع قضايا مسلمي فرنسا عند المشروع الإخواني.
تأسّس هذا الاتحاد عام 1983، ويضمّ حالياً ما يُناهز (250) جمعية ثقافية ودينية وغيرها، وهو حاضر في شتّى ربوع التراب الفرنسي، منها ما يعمل في مجالات تدريب الأئمة، حيث يضمّ تحت رعايته العديد من المراكز المنتشرة بين الثقافة والطب والاقتصاد، إضافة إلى أنه يُدير عشرات المساجد في فرنسا، مستغلاً بذكاء الفراغ في العرض الديني الذي مَيّز أداء المؤسسات الدينية حديثة التأسيس، والتي كانت مقرّبة من الدول العربية، وخاصة الدول المغاربية، من قبيل مسجد باريس المقرّب من الجزائر، و"الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا" المقرّبة من المغرب، ومنظمات أخرى، فكانت النتيجة أنّ الشباب شرع في البحث عن بدائل.
وكما لاحظ برنارد غودار، أحد أهم خبراء المسألة الإسلامية في فرنسا، بحكم اشتغاله في منصب حساس بوزارة الداخلية الفرنسية، بين 1997 و2004، لأنّه كان مكلفاً في هذه الحقبة بتدبير المسألة الإسلامية في الوزارة، فإنّ الاتحاد الإخواني قام بدور "الوساطة لدى هؤلاء الشباب، وخاصة عبر بوابة معرض "لوبورجي"، الذي كان يسمح للشباب الزائر أو المشارك بالتعرّف على مراجع دينية كانت شهيرة حينها، وفي مقدمتها يوسف القرضاوي، الذي كان برنامجه "الشريعة والحياة" على فضائية "الجزيرة"، يحظى بمتابعة كبيرة، وهي الخلاصة ذاتها التي توقف عندها الخبير الإعلامي والباحث غزافيي ترنسيان، الذي ألف كتاباً حول المشروع الإخواني، متوقفاً في مضامين كتابه عند مشاركة أسماء إخوانية أخرى في أشغال المعرض نفسه، من قبيل راشد الغنوشي التونسي، ومحفوظ نحناح الجزائري، وأسماء أخرى.
إنّ وعي جزء من النخبة السياسية والحزبية بطبيعة المشروع يقف وراء صدور بعض الإشارات النقدية الصريحة خلال الأعوام الأخيرة، ولن تكون آخرها، ما صدر عن المستشارة البرلمانية جاكلين إيستاشي برينيو، التي اشتغلت على تقرير رسمي صادر عن البرلمان الفرنسي بخصوص الإسلاموية الفرنسية، ومع أنه كان مخصصاً لأداء الحالة الجهادية، إلا أنها تطرّقت إلى دور "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، باعتباره "منظمة تقوم بالدعاية للإخوان المسلمين، وتروم، عبر منظمة اتحاد مسلمي فرنسا (الاسم الجديد للاتحاد) أسلمة مسلمي فرنسا، عبر استهداف العمل الاجتماعي، مجال التربية والحقل السياسي، ويسعى المشروع لكي يُصبح مخاطباً مفضلاً لدى السلطات العمومية".
اشتغل المشروع الإخواني طيلة عقود على اختراق الجالية المسلمة والمجتمع الفرنسي، ومن ذلك اختراق مجال التربية والتعليم، بحكم مساحات الحرّية التي توفرها المدوّنة الدستورية الفرنسية، وليس مصادفة أنه في غضون عام 2003، سوف نعاين تأسيس أول مدرسة إسلامية بمدينة ليل (شمال فرنسا)، وهي مدرسة كانت، وما زالت، تابعة للمشروع الإخواني، واعتبرت المدرسة بمثابة نموذج يمكن تطبيقه في مدن أخرى، وخاصة المدن الكبرى، كباريس وليون ومارسيليا ونيس. ويكمن رهان هذه المبادرة حينها في أنّ الإعدادية كانت الأهم في فرنسا، ومبادرة يقودها اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا.
ساهمت آلية الاختراق هذه، أي اشتغال المشروع الإخواني على اختراق مؤسسات الدولة والمنظمات الأهلية، في تكريس أحد أهداف المشروع، أي تمثيل المسلمين أمام السلطات الفرنسية، وبالتالي يُصبح خادماً للجماعة قبل خدمة قضايا المسلمين، بمقتضى الانتصار للمرجعية الإيديولوجية الإخوانية.
وتيرة اشتغال المشروع الإخواني في فرنسا دفعت بعض المنابر الإعلامية إلى تسليط الضوء على "خريطة مَجَرّة الإخوان المسلمين في فرنسا" بتعبير أحد المنابر الإعلامية، وصدرت الخريطة في 20 شباط (فبراير) 2020، وهذه سابقة إعلامية أن نقرأ لمنبر إعلامي يتحدث في عنوان مادة إعلامية، موثقة بالأسماء والمراجع، عن خريطة ومَجَرّة وإخوان مسلمين في فرنسا، لأنّ الحديث عن إخوان فرنسا كان متداولاً من قبل، ولكن لم نكن نقرأ حديثاً عن خريطة أو مَجَرّة،
وسبب ذلك أنّ إخوان فرنسا اخترقوا كلّ ما هو صالح للاختراق في الساحة الفرنسية، في سياق خدمة أهدافهم، من قبيل الاشتغال على قضايا التخويف من الإسلام، أو استقطاب جزء من النخبة السياسية والفكرية، وخاصة النخبة اليسارية؛ أو العمل الميداني على الأصعدة كافة، أو التغلغل في شتى المؤسسات، سواء تعلق الأمر بمؤسسات الدولة، أو المنظمات الأهلية، أو الحقل الإعلامي مع المواقع الإلكترونية الإسلاموية، أو القطاع الطلابي في الجامعات والقطاع التعليمي في ضواحي المدن الفرنسية، وباقي القطاعات القابلة للتغلغل والانتشار.
للباحث محمد لويزي، وهو عضو سابق في المشروع الإخواني، سواء في المغرب أو في فرنسا، ومؤلف كتاب "لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين"، وكتاب "فصل الإسلاموية عن الإسلام"، إشارة دقيقة تلخص دهاء المشروع الإخواني في الساحة الفرنسية، جاء فيها أنّ هذا المشروع "تفطّن إلى آليات العمل السياسي القائم على التحالفات الانتهازية، ولذلك يوظفها تارة مع أحزاب اليمين، وتارة أخرى مع أحزاب اليسار، وتارة ثالثة مع أحزاب الوسط؛ ففي معرض التعامل مع القضية الفلسطينية
نجده يتظاهر مع أقصى اليسار، وفي معرض التنديد بالتضييق على ارتداء الحجاب، يتظاهر مع التيار السلفي، وفي نقده لمشروع "الزواج للجميع" الخاص بالمثليين، يتظاهر مع يمين اليمين، وفي الانتخابات المحلية والجماعية لا يوجد أيّ حزب مفضل لديه، بقدر ما يهمّ التحالف مع المرشح الحزبي الذي سيخدم المشروع الإخواني، إنّه يعمل بثلاثية: النفعية، والانتهازية، والواقعية السياسية".
0 Comments: