الإسلاميون والدولة: صراع على الحكم وليس لخدمة الدين
يشكل كتاب "مرجعيات الإسلام السياسي"، للمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد الشرفي، جزءاً مهماً ضمن مساهماته النقدية، في فهم ظاهرة الإسلام السياسي، في المجتمعات العربية، وعلاقة الدين بالدولة، ومشكلة تحديث الفكر والوعي الديني، في مواجهة التراث، وحكم الفقهاء، واستبداد السلاطين.
وقد دأب الشرفي، طوال مسيرته الأكاديمية، على تتبع ظاهرة الجماعات الدينية المختلفة، وتكويناتها المتعددة، بهدف تفكيك أدبياتها، والأفكار التي روجت لها، ورصد الحوادث التي رافقتها، لتحديد صلاتها وارتباطها العضوي، بالتاريخ والثقافة التي تنتمي لهما، من ناحية، وتحليل شروط انبعاثها الراهن، وفق سياقاتها الزمنية الحديثة، من ناحية أخرى.
ويبدو أنّ الكتاب الصادر عن دار التنوير، في العام 2014، استئناف لجهود عديدة سبقته، يعيد الشرفي بلورتها وصياغتها، بشكل مكثف وسريع ومقتضب، مدفوعاً بمخلفات ثورات "الربيع العربي" التي اجتاحت عدة عواصم عربية، وقد شهدت خلالها، بزوغاً لنجم الإسلام السياسي، بصورة مؤثرة، واقعياً، سواء في الصراع السياسي، والمنافسة البراغماتية على الحكم والسلطة، أو في الجدال الثقافي والفكري، الذي احتدم مع خصومهم التاريخيين، من التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية.
يقر صاحب "الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، أنّ دولة الخلافة، التي يتهافت على استدعائها الإسلاميون، لا تعدو كونها، نموذجاً للحكم، لا يختلف عن غيره، ممن كان سائداً، في ذلك التاريخ، والحضارات القديمة، التي تشكلت حوله؛ مثل الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، وبالشكل الذي اقتضته رهانات تلك المرحلة، سواء من الناحية السياسية والاقتصادية، وكذا، مصالحها الطبقية والاجتماعية.
ومن ثم، فإنّ الصلة بين الإسلام والدولة، لا تقوم على ضرورة حتمية، وارتباط عضوي، إذ إنّ الدولة ليست هي المسؤولة عن نشر الإسلام، فكما انتشر الاسلام بفضل الفتوحات، لكنه في الآن نفسه، اعتنقته شعوب في أقاصي آسيا، عبر نشاط التجار والمتصوفة، كما هو الحال، في أندونيسيا، التي تعد أكبر دولة إسلامية، من حيث عدد سكانها.
إذاً، يتبنى الشرفي، فرضية مهمة، وهي أنّ المركزية الجامعة بين الإسلام والدولة، التي تحمل العقيدة، في بنيتها السياسية، وتستلهم من خلالها الشرعية في الحكم، كانت مرتبطة بظرف تاريخي معين، اقتضى معه مأسسة الدين. لكن ذلك، لم يؤد إلى اختلاط في الوظائف، بين السلطتين الدينية والسياسية، حيث كان كل منهما يعتمد على الآخر، في تعيين دوره وممارسة مهامه ووظائفه.
ويوضح صاحب "الإسلام والحداثة"، أن المجتمعات الإسلامية والعربية، كانت فقيرة سياسياً، على المستوى النظري، في ما يتعلق بفلسفة السلطة والحكم، بعكس بما أنتجه الفكر اليوناني القديم، على هذا الصعيد، ومن ثم، كان السلطان بحاجة إلى المشروعية الدينية، كما أنّ الممثل الديني "الإمام"، كان يستعين بالسلطة السياسية، لتنفيذ مهامه المجتمعية.
ولئن شهدت الدول والإمبراطوريات، التي تكونت في عهد الخلفاء الراشدين، أو في عهد الدولة الأموية والعباسية، تفككها وتحولها إلى دويلات مستقلة؛ حيث بدأت مع الأدارسة، في المغرب الأقصى، والأغالبة في تونس، وصولاً إلى بغداد، التي كانت مركز الخلافة العباسية، وقد سقطت، في القرن الرابع الهجري، في أيدي البويهيين، ثم السلاجقة، فإنّ النواة الصلبة، التي ظلت تجمع المواطنين وأفرد الأمة، وتحتفظ بتماسكها، هي جملة العقائد والممارسات والطقوس الدينية، التي تميز المسلم عن غيره، حتى خارج مظلة وهيمنة الحكم الذي سقط.
طرح الشرفي آراء العديد من المفكرين والمصلحين العرب، خلال القرنين الماضيين، ممن تناوبوا على بحث قضية العلاقة، بين الإسلام والدولة، واشتبكوا مع عوامل وأسباب الردة التاريخية، تحت وطأة الانسحاق للفكر الماضوي، وتأبيد سلطة التراث وتقديس السلف.
ومن بين الذين بعث المفكر التونسي دورهم، وكشف عن إسهاماتهم الفكرية، كان رفاعة الطهطاوي الذي حدد أنّ الدولة تقوم على ركيزتين؛ القوة الحاكمة، التي تضمن الأمن، وتنتظم عبر أطرها القانونية، نظام الحياة الاجتماعية، وهو ما يحتاج برأي الطهطاوي، إلى مواثيق قانونية ودستورية، يؤسس لها الفكر السياسي المحض، بدون المرجعية الدينية، ومن ثم، أقر بضرورة الفصل بين السلطات، واعتبر الأمة مصدرها.
وفي السياق ذاته، أشار إلى خير الدين التونسي، الذي أخذ خطوة أكثر جرأة، ورأى بضرورة استلهام الحداثة السياسية ونظامها في الغرب، وقال بأنّ "خلاص الأمة الإسلامية، متوقف على البدء بتغير نظام الحكم فيها، والانتقال بها، تدريجياً، نحو النموذج الغربي".
كما كان الإمام محمد عبده، أحد هؤلاء الذين أقروا بـ "مدنية" الحكم في الإسلام، ورفض الحكم الديني، وأكد على رفضه نظرية الحكم الإلهي، ومقولة أنّ "الخليفة هو ظل الله على الأرض"، بما يؤسس لاستبداد سياسي على أسس دينية، وصرح بأنّ نماذج الحكم، التي عرفها التاريخ الإسلامي، غير ملزمة للمسلمين في العصر الحديث.
ومثلهما، كان الشيخ الأزهري، علي عبد الرازق، مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، الذي يتفق مع الرأيين السالفين، معتبراً أنه ليس ثمة ما يمنع المسلمون، من تطوير نظم حكمهم، على غرار ما يحدث في الغرب.
وبينما كانت معركة الخلافة محتدمة، بعد تحولها إلى مجرد سلطة روحية، عقب سقوطها، على يد مصطفى كمال أتاتورك، في عشرينيات القرن الماضي، واجه تلميذ الإمام محمد رشيد رضا، تلك التحولات والدعوات المؤيدة، وتصدى لها؛ حيث طالب بإحياء الخلافة الإسلامية، والتي كانت أحد المدخلات الرئيسية، والعوامل المفتاحية، لنشوء تنظيم الإخوان المسلمين، بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة في الاستانة.
ويوضح الشرفي، أنه إبان وفاة الرسول، عليه السلام، اندلعت الصراعات حول من يمثل الحكم، ويحتل موقع الخلافة، عقب وفاة الرسول، عليه السلام، والتي تسببت فيها العصبيات القبلية والعربية، وخلق توترات عديدة، وفتح دوائر عنف طويلة، في التاريخ الإسلامي، نتج عنها ذلك التصدع الذي دشنه ظهور مرجعيتين دينيتين؛ السنة والشيعة، والانحياز لنظم حكم مختلفة عن الآخر.
وإلى ذلك، فإنّ نشأة الإسلام السياسي، يتحتم أن توضع في إطار الظرف السياسي والثقافي الذي تمخضت عنه، حتى يمكن فهم وتعيين، وضعها الواقعي، في المجتمعات العربية؛ إذ إنها تنتمي إلى نشأة الدولة الحديثة، في المنطقة العربية، بكل معطياتها التاريخية.
فقد ظهرت الجماعة الأم "الإخوان المسلمين"، في فترة ما بين الحربين العالميتين، العام 1928، والتي تعد أحد ردود الفعل، على سقوط الخلافة، في العام 1924، من ناحية، ونشوء الدولة الوطنية، من ناحية أخرى، والتي لها حدود جغرافية ثابتة، أو شبه ثابته. لكنها، على كل حال، لا تنتمي إلى واقع الامبراطوريات القديمة.
وبحسب الشرفي، فإنّ إخفاق مشروع التحديث في الوطن العربي، أدى إلى القطيعة مع الأفكار التقدمية والحداثية، ما ساهم في تمرير الفكر المحافظ، سياسياً وفكرياً، ووفر الشروط والمناخ، ما سمح بتمدد التيارات الأصولية. وهي الحالة التي تتقاسمها تونس ومصر، كما يشير الشرفي الذي يرى أنّ الأيديولوجيات المحافظة، في كليهما تهيمن بصورة ملحوظة، تحت مسمى تطبيق الشريعة، التي هي، بالأساس، أحكام فقهية، نسبية، ومخرجات بشرية، لضرورات عملية، فرضتها الحوادث التاريخية لحظتها.ويعود ذلك، لعامل رئيسي؛ هو غياب أي بعد ثقافي ونقدي، منذ ظهر الإسلام السياسي، قبل نصف قرن، والذي كرس للنظام القبلي.
وثمة تناقض يحمله الإسلامويون، يكشف عن رؤيتين، ليست إحداهما مع الدين والأخرى ضده، كما يروجون، لكن، نتج عن الشرط التاريخي، الذي أدى إلى تطور فلسفة الحكم ونظريات السياسة، ونشوء الدولة، كمفهوم حديث ومتطور، نجمت عنه صورة مغايرة في الحكم، بخلاف الواقع التقليدي والقديم، فأضحت الدولة تمثل القوة، التي تمارس الحكم بالقانون والدستور، ويخضع لها المواطنون، ومن ثم، لا يمكن لها أن تنفذ أحكاماً عشائرية، باتت متهالكة، وفقدت صلاحيتها التاريخية، كمثل القصاص، وتأخذ بالثأر، عوضاً عن بنود القانون وأحكامه، وهو نفس الأمر، الذي فرض على الإخوان المسلمين، القبول بزي للمرأة مثل؛ البنطال، وقد كانت ترفضه وتحرمه، قبل عقود.